تعمل لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد على كشف الأفعال المرتكبة بين 7 نوفمبر 1987 و14 جانفي 2011... لكن ماذا عن الفساد المالي والاداري الذي لا يزال قائما الى اليوم في إداراتنا ومؤسساتنا بشهادة كثيرين؟ «لا بدّ من الحذر وعدم الاطمئنان لعمل اللجنة، فبعض مظاهر الفساد لاتزال بيننا ونحن عاجزون عن النظر فيها لأن القانون قيّد عملنا بتاريخ 14 جانفي»، يقول الأستاذ عبد الفتاح عمر رئيس لجنة الرشوة والفساد، مشيرا الى أن عمل اللجنة سينتهي بانتهاء النظر في ملفات الفساد في فترة النظام البائد وإحالتها على القضاء... إذن ما العمل؟ نعم... مازال! أينما تساءلت عن تواصل الفساد المالي والاداري والرشوة في تونس رغما عن الثورة التي أطاحت ب«عصابة السراق»، تسمع إجابة واحدة: نعم مازال كل شيء على حاله... لم تغيّر الثورة ما بقوم أو على الأقل ما ببعض من القوم... والاجابة ينطق بها المواطن البسيط كما الموظف والمسؤول... الجميل في الموضوع أن الحديث عن تواصل الفساد والرشوة لم يعد ذلك الموضوع الذي يُحكى في الأركان وبأصوات خافتة، بل أصبح علنا... في الشارع والمقهى ومراكز العمل ووسائل النقل العام والبيوت... لم يعد الفساد ذلك الموضوع الذي تتحاشى السلطة والمسؤولين الخوض فيه، بل أصبح محلّ نقاشات ودراسات وندوات علمية وفكرية وتحقيقات إعلامية ويخوض فيه كبار المسؤولين على رأسهم رئيس الدولة الذي ذهب حدّ القول مؤخرا بمناسبة ندوة دولية حول الظاهرة أنه «يأمل في أن يدرج المجلس التأسيسي المنتخب ضمن أولوياته مسألة مقاومة الرشوة والفساد» في إشارة الى أن الظاهرة لم تنته بانتهاء نظام بن علي بل لاتزال بيننا ولا بدّ من القضاء عليه حاضرا ومستقبلا. حاويات «الطرابلسية» من أبرز ما يستدل به التونسيون حول تواصل قيام ظاهرة الفساد المالي والاداري والرشوة هو تواصل ظاهرة التجارة الموازية التي ارتبطت في الأذهان ب«الطرابلسية» (عبارة الطرابلسية تشمل أصحاب عدّة ألقاب ولا تهم حاملي لقب الطرابلسي فقط) وبحاويات البضائع التي تغادر يوميّا الموانئ والشاحنات التي تجتاز يوميا الحدود لتتوزع على أرصفة شوارعنا... الظاهرة ارتبطت في الأذهان بفساد ما صلب جهاز الجمارك وجهاز التجارة وتواصلها بشكل أكثر كثافة بعد 14 جانفي يطرح أكثر من سؤال: هل انتهى فعلا عهد «الطرابلسية»؟ أم هل برز مكانهم «طرابلسية جدد»؟ أم هي «حفاظ» على مصالحهم التي لا تزال في الأذهان قائمة؟ الجهات الرسمية المعنية تجيب عن كل هذه التساؤلات بالنفي، وتقول إن ما يجري في هذا المجال هو مجرد «بقايا» لفساد العهد البائد وسيتم القضاء عليها تدريجيا. مصالح «الطرابلسية» عدد كبير من الشركات التي قامت خلال فترة نظام بن علي بفضل الفساد الاداري والمالي داخل بعض أجهزة الدولة لاتزال قائمة الى اليوم وتواصل نشاطها لا بدّ منه في اطار المحافظة على مواطن الشغل وعلى النسيج الاقتصادي... لكن يتهم البعض هذه الشركات بأنها ماتزال تحافظ ولو بطريقة غير مباشرة على حقوق أصحابها الهاربين خارج الحدود أو الموجودين رهن الايقاف أو بحالة سراح... في حين يتهمها آخرون ويتهمون من ورائها الادارة والحكومة وأطراف أخرى بأنها ماتزال تحافظ على امتيازات حصلت عليها خلال العهد النوفمبري... لكن الثابت هو أن الدولة هي المشرف الآن على التسيير داخل هذه المؤسسات عبر المتصرفين القضائيين وعبر ممثليها في مجالس الادارة. مسؤولون من بين ما يتداوله التونسيون اليوم عند الحديث عن تواصل الفساد الاداري والمالي والرشوة هو تواصل بقاء عدد من المسؤولين المحسوبين سابقا على أفراد عائلة وأصهار بن علي على رؤوس مؤسسات إدارية هامة في الدولة ويعتقد التونسيون أن انتهاء عهد «الطرابلسية» لا يعني انتهاء عهد هؤلاء الفاسدين بالادارة... فكما نشطوا مع «الطرابلسية» سابقا سينشطون اليوم وغدا مع «طرابلسية جدد» (بالمعنى الواسع للكلمة) بل وأكثر بعد أن اكتسبوا الخبرة اللازمة وذاقوا «حلاوة» المال العمومي المحوّلة وجهته وثروات الشعب المغتصبة. ويرى الخبراء والمختصون في المجال أن الحكومة الحالية هي التي تتحمل جانبا من المسؤولية من خلال ابقائها على هؤلاء المسؤولين على رأس ادارات حساسة وكان من المفروض قراءة حساب لكل هذا خصوصا أن سيرة وتاريخ كثير منهم على كل لسان ويعلمها القاصي والداني. رشوة مازال كثيرون يتحدثون عن إجبارهم على دفع الرشاوى لقضاء مصالحهم وشؤونهم بالادارات والمؤسسات! وهناك من يذهب حدّ القول إن الظاهرة تضاعفت خاصة خلال الأشهر الثمانية الماضية (بعد الثورة) في ظل وجود شبه انفلات إداري وقانوني ورقابي داخل بعض المؤسسات والادارات حال دون شعور هؤلاء المرتشين بالخوف من تبعات أفعالهم تلك بل وحال دون تفطن مسؤوليهم في العمل لهذه التصرفات. الأمثلة المتداولة يوميا حول هذه الظاهرة كثيرة لكن الغريب هو أن المشتكى والمتذمر منها يعترف لك بعظمة لسانة أنه «دفع هو الآخر رشوة لقضاء شؤونه»، فيكون بذلك مساهما رئيسيا فيها ولا يمكن بالتالي القضاء عليها إذا لم يقض المواطن عليها داخله... وإذا لم يعلم عن تعرضه لها. «الطرابلسية الجدد» تاريخيا، كانت كل الثورات في العالم متبوعة ببروز أثرياء جدد لأسباب عديدة... ويصبح الخوف كل الخوف أن يستعمل هؤلاء «ثروة الثورة» لمزيد بسط النفوذ في مختلف المجالات كالادارات والسوق والسيطرة على مفاصلها بفضل أموالهم الثورية وهو ما يجب على أجهزة الدولة التفطن إليه من الآن.. وإذا كان هؤلاء سيستغلون مال الثورة، فإن آخرين قد يستغلون القوة والبطش في ظل النقص الأمني والرقابي فيفتكون الأموال من أصحابها ويستحوذون بالقوة على العقارات والأراضي والممتلكات الخاصة والعامة ويكوّنون بالتالي ثروة من صفر، ويواصلون التصرف ذاته على غرار ما كان يقوم به «الطرابلسية» بفضل ما لديهم من امكانيات: المال النفوذ العنف المادي. تطبيق إتفاقية الأممالمتحدة ضروري رغم القوانين والمؤسسات القائمة في تونس تتوزع القوانين الرادعة للفساد والرشوة على عدّة نصوص قانونية عامة وخاصة على غرار المجلة الجنائية والمجلة التجارية ومجلة المحاسبة العمومية ومجلة الأداء على القيمة المضافة ومجلة الشغل ومجلة الالتزامات والعقود... كما توجد نصوص أخرى متفرقة يقع سنها من حين لآخر للحدّ من كل مظاهر الرشوة والفساد واضافة للقوانين، توجد هياكل رقابية قائمة الذات اليوم بتونس تعمل على مقاومة الظاهرة مثل دائرة المحاسبات ودائرة الزجر المالي والرقابة العامة للمالية والمحكمة الادارية ومجلس المنافسة... اضافة الى جهاز المراقبة الاقتصادية وجهاز الشرطة الاقتصادية وجهاز الديوانة. وتمّ مطلع السنة الماضية بعث لجنة لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة، لكن مهمة محددة بالفترة نوفمبر 1987 وجانفي 2011. وقد صادقت تونس على اتفاقية الأممالمتحدة لمقاومة الرشوة والفساد في 2008 (بعد 5 سنوات من سنها) وتفرض هذه الاتفاقية عدّة آليات على تونس للحدّ من هذه الظواهر... وقد بات تطبيق تونس لما ورد بهذه الاتفاقية اليوم مطلبا شعبيّا وتنادي به أيضا مختلف مكونات المجتمع المدني وأيضا الأطراف الأجنبية.