نشوة الانتصار بالثورة... فقدوا المشعل... هي أحزاب وقوى وشخصيات لها مشارب إيديولوجية... رافقت الشعب منذ انحسرت الحريّات، وساد الحياة العامة الحزب الواحد.... والرئيس الواحد... اليسار في تونس كما القوميين كما الليبراليين، تسابقوا وترافقوا عبر محطّات كبرى من تاريخ تونس... مواقيت مفصليّة جمعتهم وفرّقتهم... وهي نفس المواقيت التي صادمتهم مع النظام عهد بورقيبة ومعه عهد بن علي. لكن، والمشهد التاريخي كما المشهد اليوم، يبعث على التساؤل: كيف كانت علاقة هذه القوى الثلاث مع الشعب؟ السؤال نفسه يزداد إلحاحا اليوم، وقد توجّه اكثر من 80٪ من الناخبين التونسيين يوم الاحد 23 أكتوبر 2011، بين السابعة صباحا والسابعة مساء، الى صناديق اقتراع شفّافة، في عملية انتخابية لا تشوبها شائبة، هي الاولى في تونس والبلاد العربية... الصندوق، وبعد أن باح بما ضمّنه الناخبون التونسيون من أصوات، وجدت القوى المذكورة آنفا، نفسها في مراتب لم تمكّنها من وجود... فكانت المفارقة، حين صعد الى جانب النهضة فتلاها حدّ ملاصقتها في بعض الدوائر، من هو مورّط أصلا مع نظام بن علي، وقد مسك بجهاز تحكّم عن بعد، أي من خارج البلاد... لا تزال حيرة ثالوث اليسار والقوميين والليبراليين، متواصلة، ولكن التساؤل والسؤال الموجّه اليهم يتواصل: من خذل من؟ الشعب أم هذه القوى المذكورة؟ كانت المؤشرات واضحة، تلك التي رافقت عودة قيادات النهضة الى تونس، وكذا حصول حزب حركة النهضة على التأشيرة... فقد بدأ العدّ التصاعدي يرافق كل فعل سياسي تأتيه النهضة، وكانت قياداتها تتعامل مع الاعلام الداخلي والخارجي، وفق استراتيجيات مدروسة، فيما غيّب نفس هذا الاعلام المتعدّد، القوى اليسارية والقومية والليبرالية، إلا بما يقحمها في بوتقة الجدل العقيم والخطاب البعيد عن معاناة الشعب. كان البون شاسعا بين وسائل عمل حزب مشربه ديني وفعله سياسي براغماتي، تعاطى مع الانسان التونسي في الاحياء الشعبية وفي «محاضن» الحرمان والاقصاء عبر كل البلاد، إضافة الى غياب المنطق العقابي عن خطاب النهضويين، تجاه كل من حمل بطاقة انخراط في التجمّع... أو ضد من تكلّم باسم النظام سواء من منبر الجامع أو في استوديوهات القنوات، التي سخّر بن علي الخاصة منها قبل العمومية... «صك الغفران» هذا، لم يهتد اليه الثالوث «الغائب» عن المجلس التأسيسي بفعل نتائج التصويت الشعبي المكثّف... فبلغ الانتشاء حدّه، عند هذه القوى «المقهورة» من جديد، عندما وقع حل التجمّع الدستوري الديمقراطي، وكان الانتشاء والتفاخر بأنهم هم مصدر هذا القرار... متناسين، أن الشعب الكريم، الذي سيصوّت يوم 23 أكتوبر هو الذي يتأبّط مليونين منه بطاقات انخراط في التجمّع!... وأن تلك القوّة الشعبية La masse populaire، بيدها الحل والعقد، بعد أن تركها «بن علي» وفرّ الى الخارج... وخذلها مسؤولو الحزب الذي قد يكونون ينتمون اليه بلا عقيدة او اختيار... حافظت القوى المذكورة، في تناغم غير مقصود، على شعاراتها وتعفّفها من كل ما هو تجمّعي دستوري، متغافلين على أن اللحظة التاريخية التي يعيشون، ليست لحظة نظرية... ولا هي لحظة معارضة تتطلب رفع الشعارات، وإنما هي لحظة الحقيقة لحظة الإنخراط العملي في صفوف الشعب... هذه المعطيات يضاف إليها مجموعة الفخاخ التي نصبت لهؤلاء المقصيين بفعل صندوق انتخابي شفاف، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذات الصندوق مستوعبا وكاشفا لما هو عليه من وضع ثقافي ومدني شعبي في تونس،وقد رأينا أن هذه الفخاخ تصنف كالتالي : الفخ الأول تمثل في عدم إصرار القوى المناضلة الثورية والمشاركة في الثورة على أن لا تكون الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة هي البديل لمطلب اعتصامي القصبة I والقصبة II ونقصد مجلس حماية الثورة... فقد كان ممكنا أن يكون ذات المجلس الذي كونه وشكله المناضلون عبر الجهات بالبلاد، هو الممثل الحقيقي للحراك السياسي...إذ كان سيطعم المجلس التأسيسي عبر الانتخابات بأكثر تنوع مما هو عليه الآن. الفخ الثاني، ويتمثل في ذاك الجدل العقيم الذي ساد«الهيئة العليا» حول موضوع الهوية...فكانت القوى المنتمية إلى الثالوث المذكور منها من هي داخل الهيئة ومنها من هي خارج الهيئة قد سقطت في فخ الجدل... جدل أنزلته وسائل الاعلام والقوى السياسية إلى الشعب، فكان هو الفيصل وكان المحرار واضحا...رغم أن عددا كبيرا من القوى والشخصيات الوطنية والتقدمية لم تكن تروم طرح مثل تلك الثوابت . الفخ الثالث : وقد تمثل في نوعية وفحوى الخطاب الذي رافق محاكمة بن علي وأسرته...فقد تركزت التهم على الإختلاس والفساد المالي وتبييض الأموال، ولم نر محاكمة سياسية لنظام ...ولقد بدا عدد من القائمين بالدعاوى هذه مبتهجين مسرورين وهم يدفعون بما يسمونه ب «أزلام» النظام السابق في المحاكم، بل اتخذ الأمر صورة فلكلورية لا علاقة لها بالمحاكمات السياسية، التي من المفترض وحتى توضع كل القوى أمام مسؤولياتها التاريخية أن ترجأ المحاكمات إلى ما بعد المؤسسة المنتخبة وأي عندما تحل الشرعية الحقيقية، المتأتية من الصندوق...وأن تكون أية محاكمة لنظام بن علي محاكمة سياسية حتى يقف المواطن على أسباب غطرسة نظام لكي يقي نفسه والبلاد من معاودتها هذا فخ سقطت فيه القوى المذكورة أو جلها فتفادته «النهضة» وعزفت عنه بإتجاه التحضير للإنتخابات وللتأسيسي...ولم يفهم «الجماعة» الذين بدت «قلوبهم شتى» وأقصد اليسار والقوميين والليبراليين أنه وبانخراطهم في بوتقه مثل هذا الجدل العقيم، إنما تركوا الساحة والمواطن بين يدي من له إجابات شافية... ومطمئنة وبعيدة عن التشنج والعنف... الفخ الرابع، وأعني بن مسألة «نسمة» وفي توقيت حرج من الحملة الانتخابية آخر الأسبوع الثاني فتحت قوى معينة ، جدلا بلا أفق، فإنقلب السحر على الساحر، رغم أن القوى التي نتناولها بالتحليل هنا ، ليست هي صاحبة الفكرة ولا هي إنخرطت في اللعبة، لكنه فخ بكل المقاييس دفعت ثمنه هذه القوى التي تحسّ اليوم بكثير من الغبن وآلام جرح مسّ كبريائها النضالي هي التي جابت البلاد بالطول والعرض، مناضلين تقدميين آمنوا برسالة تخليص الشعب من الدكتاتورية... بالتأكيد أن العلاقة بين الشعب وهذه القوى ليس فيها «خذلان» ولكن الأقرب أنه سوء فهم...وقلة تجربة براغماتية، ذلك أن أغلب قوى هذ الثالوث، اكتفى بنشوة تحقيق الفكرة : الثورة والاحتجاج والتأثير في المشهد السياسي، لكن وفي غمرة الفرح بتحقيق الحلم، وجد من هو أسرع في خطف المشعل، وجني أصوات الناخبين...ناخبون يتعاطون مع الحدث واللحظة ضمن منظومة ما يسمى بسيكولوجيا الجماعة. فالذي حدث للتونسيين من عنف النظام وجبروته ليس قليلا...والذي عانته القوى المناضلة والمكابدة طويلا دون أن تذعن كذلك ليس قليلا...