بعد مسلسل الاجتماعات الماراطونية الطويلة وتشريح قطاع الإعلام لتشخيص علله ومواطن الخلل فيه، يحق لكل الإعلاميين وللرأي العام الوطني اليوم التساؤل عما أنجزته الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام منذ إحداثها في مارس 2011 وعن وصفات العلاج التي يفترض أن تكون قد أعدتها لشفاء الاعلام من علله؟ بات من الواضح أن الأشهر الثمانية التي استغرقها عمل الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال لم يأت إلى حدّ الآن بما هو مطلوب وما ينتظر كل الاعلاميين فنسق تطور الإعلام التونسي بعد الثورة يبدو بطيئا جدا والإصلاحات المنتظرة لم يحن أوانها بعد. فقطاع الصحافة المكتوبة مازال يتخبط في إشكالاته المزمنة التي تفاقمت بعد الثورة وقد وقعت بعض الصحف الناشئة في حبال هذه الإشكالات التي لم تستطع هيئة إصلاح الاعلام إيجاد حلول نهائية لها ووقع القطاع السمعي البصري وخصوصا التلفزة الوطنية وشقيقاتها الصغرى الإذاعة الوطنية وإذاعة الشباب وبعض الإذاعات الجهوية أسيرة الرتابة الإعلامية وبعض الفوضى رغم الجهود المضنية للإعلاميين العاملين فيها للإقلاع بهذه المؤسسات وتطوير أدائها والرفع من سقف الحرية فيها حتى تكون منابر حقيقية معبرة عن أصوات التونسيين على اختلاف مشاربهم. صدمة الصحف اصطدمت الصحف الجديدة بسوق إعلامية شرسة لها ضغوطها ومسالكها العنكبوتية فاضطر بعضها لغلق أبوابه كصحيفة المحرر اليومية ويقف بعضها الآخر على عتبات الإفلاس وازداد الخوف من المستقبل لدى أصحاب الصحف الأسبوعية بالخصوص وداهمهم شعور بالإحباط والقرف ويتجرعون مرارة البحث اليومي عن مادة إخبارية من مصادر الخبر الشحيحة واصطياد الأمل في الحصول على بعض الإعلانات الإشهارية التي يمكن أن تمنح الحياة للصحيفة ولو لبعض الوقت. بكثير من الإحباط غير المعلن تحدث الزميل يوسف الوسلاتي رئيس نقابة الصحف المستقلة والحزبية عن متاعبه ومتاعب أصحاب الصحف الجديدة والقديمة أيضا فتوجه بالاتهام إلى الدولة لتخليها عن دورها في دعم ومساندة الصحف الناشئة بعد أن فتحت الباب على مصراعيه لإسناد الرخص واتهمها بحرمان هذه الصحف من الإشهار وعدم اللجوء إلى اعتماد معايير ومقاييس يسند الإشهار على أساسها. متاعب الصحافة هذا الاتهام فتح الباب بطرح مسألة توزيع الإشهار العمومي فبعد حل وكالة الاتصال الخارجي التي كانت الهيكل الوحيد الذي يوزع الإعلانات الاشهارية العمومية تعاظم الجدل حول من سيخلف هذه الوكالة لتنظيم توزيع الإشهار وهو مالم تنتبه إليه هيئة إصلاح الإعلام مع أن الحديث عن هذا الإشكال جرى على ألسنة الإعلاميين وأمام السكوت على هذه المشكلة تسابقت الصحف التونسية للتطاحن على تحصيل هذه المادة التي تدرّ سنويا حوالي 100 مليون دينار على وسائل الإعلام عموما بما فيها من تلفزات وإذاعات وصحف يومية وأسبوعية ولا يعرف اليوم سبب العزوف عن إيجاد حل جذري ينهي الجدل القائم حول توزيع الإشهار العمومي. لكن لهذه المسألة جوانب أخرى يجدر توضيحها فالوزارات والمؤسسات العمومية حسب أحد المسؤولين الإداريين لا تملك الخبرة الكافية ولا المعرفة الجيّدة للمشهد الإعلامي ولأرقام توزيع الصحف وتعتمد في توزيع إعلاناتها الإشهارية على معيار وحيد بعد إلغاء وكالة الاتصال الخارجي وهو نسبة توزيع الصحف وتلجأ عموما إلى الصحف الأكثر انتشارا لتضمن لمادتها الإعلانية الرواج المطلوب. هموم أخرى وتشكو الصحف الناشئة بعد الثورة من عوائق مسالك التوزيع التي ترى أنها محاطة بكثير من التعقيد أمام صحف عريقة محكمة التنظيم ومتوفرة على الوسائل الضرورية تضمن لها التوزيع في كل جهات البلاد ويعتبر أصحاب الصحف الناشئة أن حلّ هذا المشكل لا يأتي إلا بتنويع مؤسسات توزيع الصحف والتقليص من تكاليف التوزيع. لا تقف متاعب الصحافة المكتوبة عموما عند هذه الإشكاليات بل يغرق أهلها في تعقيدات من نوع آخر فورق الطباعة ترتفع تكاليفها بشكل مذهل وكان على هيئة إصلاح الإعلام التدخل بشكل عاجل لتقديم الحلول العملية التي تمكن من الحدّ من تكاليف الورق والحلول لا تمرّ حتما إلا عبر هياكل الدولة لمساعدة الصحف على مجابهة هذه التكاليف على غرار ما تقدمه من دعم للمؤسسات الاقتصادية والنظر إلى المؤسسات الإعلامية على أنها مؤسسات ذات طابع اقتصادي تقوم على التوازن بين نفقاتها ومداخيلها وكل خلل بين المداخيل والنفقات يوقعها في الصعوبات المالية. وكانت هيئة إصلاح الإعلام والاتصال قد اقترحت إعادة فتح المؤسسات العمومية للطباعة والنشر المتعثرة اقتصاديا لمساعدة الصحف الجديدة بالخصوص لكن يبدو أن آذان الدولة ثقيلة السمع فلم تلق مقترحات الهيئة صدى يذكر. متاعب التلفزة الوطنية إصلاح قطاع الإعلام السمعي البصري لا يزال متعثرا ورغم جرعة الحرية التي منحتها الثورة التونسية فقد ظلت مؤسسة التلفزة الوطنية التي تتأتى مواردها بالأساس من مساهمات التونسيين، دون ما كان منتظرا منها رغم اجتهادات إعلامييها في محاولة تقديم مادة إخبارية ترضي الرأي العام الوطني. واستنادا إلى التشخيص الذي أعده الإعلامي ماهر عبد الرحمان فقد أفرزت طريقة التسيير التي استهدفت إنتاج الدعاية السياسية في التلفزة الوطنية أمراضا مزمنة من بينها أن العاملين في هذه المؤسسة اعتمدوا طريقة معالجة إخبارية بمقاييس بالية اعتمدت غالبا على النقل الحر لوكالة الأنباء التونسية وغياب مدونة للسلوك تحدد الضوابط المهنية التي يتقيد بها الصحافيون ومنتجو الأخبار والبرامج الإخبارية لتقديم مادة إعلامية موضوعية وشفافة لا يرقى إليها الشك ويضيف ماهر عبد الرحمان أن الإدارات السابقة لمؤسسة التلفزة فشلت في تأهيل الصحافيين وهمشت الكفاءات الإعلامية فحالة التخبط والضياع التي اتسم بها إنتاج الأخبار بعد الثورة كان بسبب افتقاد التلفزة للكفاءات التي يمكنها السيطرة على الوضع مهنيا والاستجابة السريعة لمتطلبات الوضع الجديد وقد فشلت الدورات التكوينية التي تلقاها صحافيو التلفزة الوطنية بسبب تهميش التكوين المتعلق بأخلاقيات المهنة الصحفية والتركيز على الريبورتاجات التلفزية وغياب هيكل متطور لإدارات الأخبار وهو ما لا يحذقه بالضرورة صحافيون لم تكن لهم خبرة دولية في أقسام أخبار متطورة على غرار ما هو موجود في التلفزات الدولية. ويرى ماهر عبد الرحمان أن المتخرجين الجدد في معهد الصحافة الملتحقين بالمؤسسة لا يمتلكون لغة متينة ولا ثقافة عامة واسعة ولا معرفة جيدة بتقنيات التحرير الصحفية وهو ما انعكس سلبا على المستوى اللغوي للمادة الإخبارية المتلفرة إلى جانب التدخلات السياسية العشوائية التي تفرض اليوم إعادة بناء التلفزة الوطنية بالكامل بقوانين وطرق عمل جديدة تقطع تماما مع الرتابة التلفزية والتعاطي التقليدي مع المادة الاعلامية. الإعلام الالكتروني...مولود غير شرعي؟! الإعلام الإلكتروني هو الآخر مازال يتخبط في إشكاليات مزمنة فلم تبادر الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام إلى اليوم لضبط تعريف محدد للصحيفة الالكترونية وتحديد مواصفاتها الأساسية فهي موقع إلكتروني له خصوصياته ويختلف على المواقع المؤسساتية أو المواقع التجارية أو المدونات والشبكات الاجتماعية. وإلى جانب ما تشكوه الصحف الإلكترونية التي تتوالد في كل يوم بنسق سريع فهي تشكو من سلبيات تحتاج إلى المراجعة الضرورية مثل محدودية التأطير المهني للصحافيين الشبان العاملين فيها وضعف الإنتاج الذاتي وإفراطها في نسخ برقيات وكالة تونس افريقيا للأنباء دون ذكر مصادرها ونشر مقالات منسوخة لا تحمل إمضاءات أصحابها بما ينفي صفة الصحيفة الإلكترونية عن بعضها وبات لزاما أن تتدخل هيئة إصلاح الإعلام لسنّ إطار تشريعي يخرج الصحف الإلكترونية من وضعية المولود غير الشرعي إلى مولود حامل لهوية محددة وتحديد خصوصياتها وما يميزها عن الصحف الورقية. كل هذه الإشكاليات تعيق الإعلام التونسي حتما عن الإرتقاء بأدائه والاستجابة لتطلعات التونسيين الذين رفعوا بأصوات عالية حقهم الأساسي في إعلام حرّ ونزيه ومهني يغنيهم عن الإعلام الخارجي ويعيد إليهم الثقة في صحفهم وتلفزاتهم وإذا عاتهم وأصبح لزاما أن تلجأ هيئة إصلاح الإعلام إلى توخي الأساليب الحديثة في تشخيص علل الإعلام التونسي وهناته ونقائصه ومتاعبه وقد لا يتأتى لها ذلك إلا باعتماد طريقة سبر الآراء الواسعة للإعلاميين وأصحاب المؤسسات الإعلامية والمواطنين أيضا فهذه الأطراف الثلاثة هي وحدها القادرة على كشف مواطن الداء في إعلامنا. وبات ضروريا أن تسارع هيئة إصلاح الإعلام إلى تقديم تقريرها المتأخر جدا عن موعده فقد كان في المفترض أن تنهي كل الهيئات عملها قبل انتخابات المجلس التأسيسي حتى تكون الرؤية واضحة أمام أعضاء الحكومة المقبلة وعلى أساسها تخطط للإصلاح...لكن تأخير الهيئة في تقديم تقريرها ترك الباب مفتوحا للتأويلات المختلفة حول جدوى ما تقوم به الهيئة واتّهمت بالعجز عن حصر متاعب الإعلام التونسي وهمومه ومشاكله فوصف العلاج لا يتأتى إلا بعد كشف الأمراض والعلل.