الديمقراطيّة ليست مجرّد شعارات برّاقة فقط ولا هي مجرّد قوالب جاهزة يقع تداولها في التصريحات والأحاديث الصحفيّة ومدحها في المنتديات والملتقيات الحزبيّة والسياسيّة والفكريّة. إنّ الديمقراطيّة هي أكثر من ذلك وأعمق بل هي أكثر رهانا وتحديّا ممّا يتصوّره البعض ومن بينهم حتّى زعماء سياسيّون، إنّها أي الديمقراطيّة مُمارسة ميدانيّة يقترن خلالها الشعار والتصريح والبيان السياسي بالفعل والتطبيق والتنفيذ. ومن المؤسف أن تبقى الحياة السياسيّة في تونس على الرغم من الثورة الفريدة والرائدة ومن الانتخابات النزيهة والشفّافة مدارا للغط سياسي وحزبي وتجاذب إيديولوجي أجوف أكبر ميزاته ضرب معاني أساسيّة في الفعل الديمقراطي. إنّ ما تفعلهُ بعض الرموز السياسيّة وبعض القيادات الحزبيّة من تشويش ومناورات حيال هذا الخصم أو ذاك لا يرتقي إلى مستوى الممارسة الديمقراطيّة الّتي ناضلت أجيال عديدة من أجل أن تكون واقعا ملموسا تحياه البلاد طلبا لأجندات عمل وطنيّة صادقة وواضحة وجليّة تخدم المشاغل الحقيقيّة لكلّ فئات الشعب ولكلّ جهات البلاد وتُتيح فرصا للتقدّم والنموّ والازدهار ومُغالبة الصعاب والتحديات وهي ماثلة لا محالة بل هي في رأي كثير من المتابعين مصيريّة لاستمراريّة كيان الدولة وتجسيد تطلّعات من ضحّى ولعقود من أجل حياة ديمقراطيّة فيها التعدديّة واحترام الرأي المخالف والعزّة والكرامة والعدالة. صحيح أنّ بلادنا تعيش على وقع تجربة ديمقراطيّة وليدة وناشئة ، ولكن من الأشياء الصحيحة أيضا أنّ تاريخ الحياة السياسيّة في تونس يؤكّد وجود زخم نضالي كبير ويحوز على إرث هامّ في ميدان التنظير الفكري والسياسي للديمقراطيّة ومبادئها ومرجعياتها وأسسها المختلفة والمتعدّدة. إنّ استحضار تضحيات أجيال الحركة الوطنيّة وأجيال بناء الدولة التونسيّة وأجيال النضال ضدّ الحكم الفردي وهيمنة الحزب الواحد وأجيال الدفاع عن حريّة التعبير وكرامة التونسي والتونسيّة وأجيال تشييد أركان الإدارة التونسيّة ، إنّ استحضار كلّ ذلك واستحضار معاناة هؤلاء وما لقوه من أتعاب وما قدّموه من تضحيات غالية ونفيسة تحثّ الفاعلين السياسيين اليوم ، سواء أكانوا في الحكم أو في المعارضة، على الارتقاء فعلا إلى مستوى ودرجة الفعل الديمقراطي الفعلي والحقيقي البعيد عن كلّ صنوف المزايدات والأعمال التي لا تستندُ إلى مبرّرات معقولة أو تلك الّتي تستنبطُ أحقادا دفينة أو محاولات لإرباك المسار العام للبلاد في مثل هذه المرحلة الدقيقة والصعبة. الأطراف الّتي هي في الحكم يجب عليها أن تنساق إلى ممارسة ديمقراطيّة يكون عمادُها الإقناع ببرامجها ومخطّطاتها بمعنى أن يكون الرؤساء الثلاثة والوزراء الجدد ماسكين برباطة جأش كبيرة وأن ينتصروا إلى الرصانة والثبات وأن يضعوا المصلحة العليا للبلاد فوق مصالحهم الحزبيّة والشخصيّة وعلى أطراف السلطة أيضا أن يكونوا مستمعين للرأي الناقد والمخالف وأن يستفيدوا من كلّ المقاربات، كما أنّ الأطراف الّتي في المعارضة عليها أن تكون في مستوى التحدّي وأن تكون في مستوى المسؤوليّة التي اختارهم لها الشعب وهي مراقبة العمل الحكومي والتنبيه بجديّة إلى كلّ الهنات والسلبيات الّتي قد تقع فيها السلطة الجديدة. لقد اختار الشعب كتلتين، الأولى للحكم والثانية للمعارضة ومهّد بذلك الطريق لممارسة ديمقراطيّة فعليّة وناجعة. ومن المؤكّد أنّ ممارسة الطرفين ، أي أطراف الحكم وأطراف المعارضة ، للديمقراطيّة خلال الفترة المقبلة ستكون هي المحرار الأساسي للاختيار الشعبي والانتخابي القادم ، فالشعب مثلما فعل ذلك يوم 23 أكتوبر الفارط بإمكانه أن يأتي بأحزاب حاكمة أخرى كما أنّه بإمكانه أن يأتي بأطراف أخرى للمعارضة.