ظاهرة غريبة انتشرت مؤخرا عقب الثورتين التونسية والمصرية، وهي انتشار القنوات التلفزيونية المخصّصة للرقص الشرقي والأغاني الشعبية المصرية أو ما يوصف بقنوات «هز الوسط» مثل «التت» و«درابوكة» و«شعبيات» و«المصراوية». ورغم ازدياد نفوذ التيارات الاسلامية، استطاعت هذه القنوات أن تحقق نسب اقبال عالية في مدة وجيزة وخصوصا في مصر. ماهي حقيقة هذه القنوات ومن يقف وراءها، وماهو الهدف من بعثها في هذا الظرف بالذات؟ مباشرة عقب الثورة المصرية لوحظ دخول كم هائل من القنوات التلفزيونية العربية الغامضة والمجهولة الهوية، فمن خلال القمر الصناعي المصري «نايل سات»، أصبح المشاهد التونسي والمصري وغيره من المشاهدين في الوطن العربي يلتقط أكثر من 10 قنوات تلفزيونية اختصّت كلها في الرقص الشرقي والغناء الشعبي المصري، اضافة الى تداولها رسائل تروج لمواد وأدوية جنسية مع ذكر أرقام هواتف الشركات المنتصبة لها. ومن أبرز هذه القنوات «قناة التت» التي تقدم حفلات للرقص الشرقي والغناء الشعبي المصري المعروف خصوصا في المطاعم والملاهي الليلية، وقد استطاعت هذه القناة أن تنتشر بسرعة كبيرة جدا في المقاهي ورمبا في البيوت محققة أعلى نسب مشاهدة شأنها شأن قناة «شعبينات» وهما قناتان اختصتا في بث الأغاني الشعبية المصرية وخصوصا الهابطة منها. والسؤال كيف استطاعت هذه القنوات أن تنتشر بسرعة وتحقق أعلى نسب مشاهدة في الوقت الذي يتزايد فيه نفوذ الاسلاميين. خارج النايل سات حول هوية هذه القنوات تنفي إدارة القمر الصناعي المصري «نايل سات» الذي تبث عليه هذه القنوات، أن تكون قد منحتها أي تأشيرة أو عقد بث، مشيرة الى أنها تبث على القمر الصناعي الفرنسي «أوتال سات». وتوضح الادارة المصرية أن التقاط هذه القنوات على القمر الصناعي «نايل سات» يعود الى وجود القمرين المصري والفرنسي في نفس المدار، ولا يمكن بالتالي حجبها أو التحكم فيها. واللافت للانتباه ليس في مصدر هذه القنوات أو عبر أي قمر صناعي تبث وإنما في ظهورها وسط الأحداث الجارية والمتلاحقة في الوطن العربي وخصوصا في تونس ومصر، ومع تزايد نفوذ التيارات الاسلامية في البلدين والمنطقة العربية عموما. فهل أن ظهورها هو ردّ على الاسلاميين، وخصوصا بعد أحكام المتشدّدين منهم بتحريم الفن والرقص أساسا، أم هي لعبة من الاسلاميين ذاتهم بهدف إثارة الحرب على الحداثيين والعلمانيين، أم هي مؤامرة من أطراف هدفهم اجهاض الثورات العربية، أم هي نتاج طبيعي وشكل من الاستثمار الاعلامي الهدف منه الربح المالي لا غير؟! وهنا تحيلنا الأسئلة كما يبدو الى أربعة آراء مختلفة وأحيانا متناقضة أو متضادة. إجهاض الثورات العربية ويذهب الرأي الأول، وهو الأكثر تداولا بين المحلّلين للظاهرة الى اعتبار هذه القنوات محاولة لاجهاض الثورات العربية والمشروع الديمقراطي العربي عموما والهدف من بعث هذه القنوات في نظرهم، هو إلهاء الشعب العربي عن مشاغله الحقيقية. فبدل أن يشاهد قنوات تتحدث عن واقعه وما يحيط به ويركز على مشاكله يذهب ويتنافس وراء بدل الرقص والأجساد العارية. ويرى أصحاب هذا الرأي أن القنوات المذكورة لها تأثير سلبي على عقول الشباب العربي وأفكاره، مؤكدين على الدور الكبير الذي يلعبه الاعلام المرئي بالخصوص، في توجيه المشاهد والتأثير عليه. حرب على الاسلاميين المتشدّدين في مقابل هذا الرأي، يذهب الرأي الثاني الى اعتبار هذه القنوات ردّ فعل طبيعي على حكم بعض الاسلاميين بتحريم الفن كالسينما والدراما والرقص خصوصا. فقد دفع هذا الحكم، محترفي وصناع الفن الى الدفاع عن مهنتهم والانتفاض على الاسلاميين. ويستند أصحاب هذا الرأي لتأكيد تفسيرهم الى تصريح الفنانة المصرية لوسي، أشهر نجمات الرقص الشرقي في الوطن العربي. فقد أعلنت هذه الأخيرة أنها لن تتوقف عن امتهان الرقص الشرقي مهما تشدّد الاسلاميون وحكموا، معتبرة الرقص الشرقي فنا نبيلا لا يتعارض مع تعاليم الدين الاسلامي السمحة. ويرى أصحاب هذا الرأي، أن بعث قنوات الرقص وغيرها من القنوات المخصّصة للغناء الشعبي يعدّ دفاعا ذاتيا وتحدّيا لأحكام الاسلاميين المتشدّدين المعادين للفن. كما يذهب بعضهم الى حدّ اعتبار هذه القنوات نوعا من الحرب المعلنة والمعركة الأولى ضدّ الاسلاميين المتشدّدين. إسلاميين وراء «هز الوسط» ويذهب الرأي الثالث الى القول بأن الاسلاميين المتشدّدين، ومن يقف خلفهم من رجال الأعمال المعروفين باستثمارهم في مجال الاعلام التلفزيوني هم وراء بعث هذه القنوات وهدفهم إثارة المشاهد العربي واستفزازه حتى ينتفض على السلط الحالية بتحميلها مسؤولية السماح ببث هذه القنوات. كما يسعون من خلال هذه القنوات إلى إثارة المشاهدين ضدّ الحداثيين والعلمانيين، وإعلان الحرب عليهم لدفاعهم عن الفن والابداع. استثمار ويذهب الرأي الرابع الى اعتبار هذه القنوات نتاج طبيعي واستثمار عادي في مجال الاعلام البصري، الهدف منه الربح المالي وينفي أصحاب هذا الرأي أن تكون هناك علاقة بين تاريخ ظهور هذه القنوات والثورات العربية وازدياد نفوذ التيارات الاسلامية، مشيرين الى وجود قنوات شبيهة قبل سنوات من الربيع العربي. وينتقد هؤلاء فكرة وضع أي وصاية على المجتمع وقيود على بث هذه القنوات، مؤكدين أن البديل هو أن يكون هناك ثقة في نضج المشاهد وحسن اختياره للقنوات التي يتابعها. ويرى هؤلاء أن المشاهد العربي سواء كان في مصر أو في تونس أظهر نضجا في اختياراته السياسية من خلال الانتخابات فكيف نفترض فيه القصور الذهني في اختيار القنوات المناسبة. ويبقى السؤال المطروح بعد عرض مختلف الآراء حول هذه الظاهرة الغريبة: أي من هذه الآراء هو الصحيح؟