تشهد الساحة السياسية التونسية تأسيسا لمشهد حزبي يتميّز بالتنافس والخصام وحتّى الصراع بين امتدادات الحزب الدستوري، والتنظيمات ذات المرجعية الإسلامية، والأحزاب الليبرالية والتقدمية الحداثية والقومية، والأحزاب الفتية الوسطية. ولئن كان لأساليب بعض الأطراف «التقدّمية» و«الحداثية» في »مناهضة» النهضة الدّور الرئيس في الفوز بنسبة غير منتظرة لهذه الأخيرة ولصعود حركة «العريضة الشعبية» (غير الرسمية) في صناديق 23 أكتوبر 2011 وفي استبعاد الرأي العام الانتخابي عن الأحزاب الجديدة (الوسطية في أغلبها) (إضافة إلى دور المال السياسي، وتركيز وسائل الإعلام على من رحم ربّك من الأحزاب، وتوظيف المساجد في الحملة الانتخابية وقبلها)، فإن ما للنهضة من رصيد نضالي ومن أساسيات تنظيمية واتصالية وتعبوية ومن بعض «الحكمة» في التعاطي مع التهجمات عليها ساهم بقسط وافر في ترجيح الكفة لفائدة مرشحيها. وقد جعل هذا الفوز الكبير للنهضة قياداتها تغتنم الفوز لمحاولة فرض «قانونها» (ما أمكن) على الساحة السياسية والإدارية بالتموقع على رأس دواليب الدولة غير مبالية بما يعتبره الرّأي العام الوطني «محاصصة» على حساب التشاور والوفاق مع دعوة »مستقلين» للحكومة التي أرادتها قيادة النهضة ترجمانا لنظام برلماني منشود في برنامجها. وقد ساهم الحزب التقدمي الديمقراطي والقطب الحداثي وحزب آقاق تونس في الشرخ الذي بات جليّا بين حزب إسلاموي حصل على الشرعية الانتخابية للسلطة السياسية (بفضل تحالف التكتل والمؤتمر اللذيْن عزيا «انزياحهما نحو اليمين» إلى حتمية الوفاق في المرحلة الانتقالية التأسيسية لتغطية الحرص المُبين لقيادات الحزبيْن الوطنية على الحصول لا فقط على مقاعد في المجلس التأسيسي، بل كذلك على مراكز في الحكومة) من جهة؛ وأحزاب وسطية وقومية ويسارية وأخرى ذات توجه ديني وليبرالية من ذوات النزعة المدنية ومتشرذمة من جهة أخرى. حراك الساحة والآن، وقد حُصّل ما في الصدور، استفاقت عشرات الأحزاب على حقيقة أن لا مكان للتشرذم والتجاذبات الضيقة بعد الذي كان ويكون، وجعلت تنحى نهج بناء التحالفات والانصهارات نحو »الوسط» الذي يعكس طبيعة التونسيين وعقليتهم واتجاهاتهم وأعينهم على نصف الناخبين الذين لاذوا بالصمت في استحقاق المجلس التأسيسي. فجعل القوميين يسعون إلى لمّ صفوفهم؛ وبدأ القطب الديمقراطي الحداثي يرسي حزبا «كنفدراليا» جامعا (حسب طموحات مريديه) انفرط عقده بعد إعلان التقدمي انصهار آفاق والجمهوري والتقدم فيه؛ وبدأت مجموعتان من أحزاب ذات نزعة إسلامية تتشاور نحو حلفيْن أعلنت 5 منها عن حلف «الجماعة»؛ وتحالفت 7 أحزاب وسطية ودستورية في «الحزب الوطني التونسي»؛ واستعد عدد من الأحزاب الأخرى للانصهار في حزب وسطي كبير حول شخصية رجل دولة آخر من الرعيل الأوّل منصور معلّى بعد تشاور مع زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي الذي انتهز فرصة انضمام أحزاب وشخصيات لنزعته في «تجديد» التقدمي ببعض الانضمامات الحزبية. في هذا الخضمّ وهذا هو الأهمّ لا زال أغلب هؤلاء وهؤلاء يفكرون ويخاطبون بعقلية يغلب عليها الأمس البعيد والقريب: لا زالت الإيديولوجية طاغية على حساب الهوية، والحساب على الخطاب، والزعامات على القيادات، والحكم على الحوْكمة، والهرمية (العمودية) على الشبكيّة (الأفقية)، والطوباويات على التصورات، والنخبوية على الواقعية، و«الألاعيب» على الأساليب. لا زال يفوتهم أن الحزب رؤية وبرنامج، ورسالة وأهداف مهيكلة منحوتة، ومبادئ وتوجهات واضحة المعنى والمبنى، واستشراف ومخططات، ونفاذ وأعماق، وما يتطلبه كلّ هذا من منطق جديد، وفكر جديد، وخطاب جديد بدءا بتسمية أو «عنوان» جديد. وهذا لن يتيسّر دون هندسة فكرية، فاتصالية، فعمليّة، وذلك بيت القصيد. شروط الساحة لقد سئم الناس من «الديمقراطية» و«العدالة» و«الحرية» و«الجمهورية» و«الحداثة» و«التقدمية» عناوينَ وشعاراتٍ سياسية للأحزاب والبرامج وهو يتطلع ويقسم ب«المواطنة» و«الحوكمة» قِيَما وأفكارا ومفاهيم وأحلاما تستعملها عشرات أحزابنا ك«إضافات» و«تتِمّات» للأولى. إذ الأفكار تتطوّر والخطاب يتطور، وعلى قادة الأحزاب مجاوزة ما بلِيَ استهلاكه والتخاطب بما يتماشى بل يتماهى مع تطلعات جيل الحاضر الذي نشأ بعيدا عن العناوين التي ناضلت من أجلها أجيال وأجيال سبقتها وحققَها هُوَ من حيث لم نكن نعي في الفترة الأولى للمسار الثوري هذا. فمتى سنعرف أن أوّل دغدغة لقلوب وعقول التونسيين عموما والشباب خصوصا هي ما يخالج نفوسهم ويعتمل في أذهانهم من غير ما دأبوا سماعه في الخطب والخطابات على مدى 55 سنة، أي من غير «الديمقراطية» و«العدالة» و«الحرية» و«الجمهورية» و«الحداثة» و«التقدمية» وما ماثلها، والتي أصبحت، بفضل دماء ثورة 14 جانفي 2011، في محصول الحاصل؟