اعتبر السيد الطاهر بلخوجة وزير الداخلية الاسبق ان تشبث جيل بورقيبة اليوم بممارسة العمل السياسي وتوظيف اسمه واسم الحزب الدستوري لن ينفع البلاد في شيء بل سيزيد في تعكير الاجواء السياسية. في حديث ل«الشروق» قال الطاهر بالخوجة انه رغم اعتزازه بالتجربة البورقيبية وبالعمل الى جانب بورقيبة الا ان تلك التجربة أصبحت في رأيه صفحة من الماضي ولا يمكن اليوم الاعتماد عليها للمجازفة بالعمل والسباق السياسي مثلما اقدم على ذلك البعض خلال انتخابات المجلس التأسيسي ومازالوا ينوون مواصلة التمشي نفسه . فذلك سيعيد البلاد الى الوراء في وقت نحتاج فيه جميعا للسير الى الامام والقطع مع الماضي.. قطع يرى بلخوجة انه لا يجب ان يكون تاما بل يشمل فقط الاشخاص والاساليب والتوجهات وبالتوازي معه يمكن المحافظة على المكاسب «البورقيبية» التي أصبحت الآن مكاسب شعبية لكل التونسيين ولا يجوز لأي كان احتكارها لخدمة اغراضه السياسية الضيقة. ومن جهة اخرى تحدث بلخوجة عن الوضع الحالي على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والامني وقدم جملة من المقترحات والحلول لتجاوز بعض المصاعب التي مازالت تتخبط فيها البلاد. على عكس البعض من ابناء جيلك «البورقيبيين» نراك اليوم بعيدا عن أضواء العمل السياسي والحزبي، فلماذا هذا الاختيار؟ منذ ثورة 14 جانفي بلغتني عدة اقتراحات وعروض للانضمام الى احزاب او لقيادة البعض منها لكني فضلت البقاء بعيدا لعدة اعتبارات، عكس آخرين. فلا السن ولا اللياقة البدنية ولا العقلية ولا التفكير يسمحون لنا اليوم نحن اصحاب سن الثمانين واكثر بممارسة العمل السياسي على الميدان والمجازفة بالتسابق مع ابنائنا واحفادنا.. ما يمكننا فعله هو تقديم مجرد آراء بناء على تجربتنا والمساهمة بما بقي في عقولنا من أفكار أرى ان اغلبها لا يتماشى والواقع الحالي. اذن أكيد ان تقييمكم لتجربة البورقيبيين الى حد الآن في العمل السياسي فترة ما بعد الثورة سلبي؟ ليس تقييمي انا بل تقييم الواقع وتقييم التونسيين ..فقبل انتخابات 23 اكتوبر الماضي تجرأ البعض عن حسن نية على تكوين احزاب وظفت اسم الحزب الدستوري واسم بورقيبة على مستوى التسمية وعلى مستوى البرامج. ثم جاءت نتائج الانتخابات وأثبتت ان تلك الاحزاب «لم تحرك ساكنا» للتونسيين رغم حنينهم لبورقيبة. فالحزب الدستوري القديم مات مع الثعالبي والحزب الدستوري الجديد مات مع بورقيبة وحزب التجمع الدستوري مات مع بن علي، ونحن الآن في طور جديد تغيرت فيه البلاد واصبحت صفحة بورقيبة في عداد التاريخ ولا يمكنها باي حال من الاحوال ان تنفع البلاد في شيء بل قد تزيد في تعكير الاجواء السياسية والاجتماعية. رغم ذلك، هل مازال هناك اصرار من هؤلاء على التشبث بالتجربة البورقيبية قصد توظيفها في العمل السياسي مستقبلا؟ للأسف الشديد نعم.. فقد بلغني مؤخرا نية بعض «الإخوة البورقيبيين» في تجميع هذه الاحزاب الدستورية تحت لواء حزب واحد يكون قويا استعدادا للانتخابات القادمة. أقول ان هذا خطأ فادح وقد رفضت الاستجابة لطلب الانضمام لهذا التوجه احتراما لبورقيبة ولحزبه، وبلغت موقفي لكل من منصور معلى وادريس قيقة واحمد المستيري وابدوا تفهمهم واتفقوا معي. لكن بورقيبيين آخرين كان لهم موقف آخر على غرار عبد المجيد شاكر والباجي قائد السبسي واحمد منصور ومحمد الصياح وقد أبلغتهم ايضا موقفي انطلاقا من ان هذا الجيل «ما عادش عندو في السوق ما يذوق» بالنسبة للمسؤوليات السياسية. أرى ان من يريد البورقيبيون لم ولن يحرّكوا ساكنا للشعب رغم حنين الجميع لبورقيبة والمجلس التأسيسي هو الديمقراطية في أحلى تجلياتها الدفاع عن بورقيبة فليدافع عن مكاسبه وعن تثبيتها ويحاول اصلاح ما علق بها من أخطاء تاريخية ويبقى بعيدا عن المباشرة السياسية ويتركها لمن أجدر بها عقليا وفكريا وجسديا من الجيل الحالي مع امكانية مساعدتهم بالافكار والنصائح. بحكم تجربتكم السياسية الطويلة ، كيف تنظرون اليوم الى الوضع السياسي العام بالبلاد؟ وهل البلاد سائرة على الطريق القويم؟ ما لا يمكن التشكيك فيه اليوم هو اننا نعيش تحت ظل شرعية الصندوق ولا بد من احترامها رغم صعوبة الوضع. لا بد من الحفاظ على البلاد من الانزلاقات وهذا يكون بالوئام والوفاق بعيدا عن لغة الانتقام و الثأر والتجاذبات وبعيدا عن القطع التام مع الماضي.. اليوم تحققت للشعب الحرية والكرامة لكنهما غير كافيين لتوفير الخبز، فالشعب في حاجة اليوم لحلول عاجلة لمشاكله الحياتية المعيشية وهي القضاء على الخصاصة وتوفير الشغل وتوفير الامن وهذا ما بدات تشعر به الحكومة الحالية وارى انها في الطريق السليم ولها النية الطيبة لذلك. أما على الصعيد السياسي اعتقد ان المجلس التأسيسي يكرس اليوم الديمقراطية في احلى تجلياتها من خلال ما يدور به من نقاشات وتجاذبات هي في النهاية علامة صحية عكس ما كانت عليه حالة المجالس النيابية في عهدي بورقيبة وبن علي حيث كانت صورية لا غير . وبالنسبة للمستقبل؟ أرى ان اهم شيء هو ضرورة التفكير من الآن في انجاح المحطات السياسية القادمة (خاصة الانتخابات) وذلك بتنظيم مسألة التسجيل بالقائمات الانتخابية منذ الآن حتى لا نقع في نفس مشكل انتخابات اكتوبر الماضي. وفي هذا السياق يجب الاسراع بإعادة تكوين هيئة مكلفة بتنظيم الانتخابات يمكن ان تستعين بخبرة من عملوا في الهيئة السابقة وارى انه من الضروري ايضا تنقيح مرسوم الاحزاب والمرسوم الانتخابي تفاديا لعدة اشكاليات وقعت سابقا لعل اهمها مسالة التمويل الحزبي الذي نتج عنه اهدار لأكثر من مليارين لا نتصور ان الدولة ستقدر على استرجاعها من القائمات التي لم تفز ب3 بالمائة من المقاعد وفق ما يقتضيه القانون. وكذلك مسالة احتساب الاصوات وايضا مسألة الترخيص للاحزاب حتى لا يعطى الترخيص الا للحزب القوي القادر على العمل السياسي ولا نقع في مشكل الفسيفساء الحزبية الذي شتت الاصوات في الانتخابات الماضية بلا موجب .وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على ان الاحزاب يجب ان تطور من خطابها نحو الشعب وان لا «تستبلهه» بالشعارات الايديولوجية التي لم تعد مجدية اليوم في شتى دول العالم. ففكرة اليسار واليمين والوسط فقدت مكانها اليوم والمعيار الاساسي للحزب يجب ان يكون برنامجه الاقتصادي والاجتماعي اعتمادا على نظرة شاملة تاخذ بعين الاعتبار العولمة واقتصاد السوق والمنافسة والكفاءة لا غير اما الايديولوجيات فلم يعد لها مكان في العالم الحديث واقول لبعض الاحزاب كفى استبلاها للمواطنين. بوصفكم وزير داخلية اسبق، كيف تقيمون العمل الامني اليوم؟ رغم ان الامن يقتضي الحزم عند فض الاعتصامات والمشاكل وحماية الممتلكات الخاصة والعامة الا اني ارى انه يبقى دوما وفي كل دول العالم آخر الحلول التي تلجأ لها الدولة بعد استنفاد الحلول الاخرى الاقتصادية و السياسية والاجتماعية في فض المشاكل العالقة، اي بعد استكمال حلول التنمية وتوفير الشغل والحوار وغير ذلك . وبعد ذلك ياتي التدخل الامني والذي لا يجب ان يكون بالقتل والجرح بل بالطرق الامنية المعروفة عالميا في فض المشاكل. هناك تجارب عالمية معروفة في العمل الامني على غرار أمريكا وأنقلترا والسويد وهي وضع الامن تحت الرقابة البرلمانية قصد مساءلته ومحاسبته عندما يخطئ. وأرى ان اليوم لدينا كفاءات امنية كبرى وبالعدد الكافي ولا بد من اعادة تنظيمها حتى تؤدي دورها كاحسن ما يكون.