يُجمع كثيرون على أنّ من أبرز المكاسب التي تحقّقت بعد 14 جانفي الاشتغال بالسياسة التي أصبحت حديث النّاس في الشارع وفي المقاهي وفي كلّ مكان، فكيف أصبحت السياسة في تونس شأنا عاما وما هي أسباب هذا التحوّل وتعبيراته؟ يقول الدكتور منصف وناس في تعريفه للحزب إنه التقاء بين مجموعة من الأفراد بغضّ النظر عن أصولهم الاجتماعية والجغرافية والأسريّة تجمعهم غالبا تصورات محدّدة وتوحّدهم مرجعية فكرية وإيديولوجية وسياسية مضبوطة، وتسعى هذه المجموعة إلى الوصول إلى تحقيق أهداف معينة من خلال النشاط وتعبئة الأفراد وإقناعهم بالانضواء تحت لواء الحزب لتحقيق غايات محدّدة يتعلق بعضها بالشأن السياسي وكيفية إدارة شؤون البلاد وتدبيرها ويتعلق البعض الآخر بتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. فالحزب هو التقاء إرادات ورغبات من أجل مصلحة المدينة. حاجة اجتماعية واقتصادية من جانبه يشير الدكتور كرامتي إلى الجانب العملي والصبغة السياسية للحزب قائلا إنّ «الحزب يقوم على فكرة الحسّ العملي، لأن بقاء الحزب مرتبط بقدرته على إيجاد الحاجة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسياسية والثقافية حتى يشارك في الواقع بقطع النظر عن نوعية هذه المساهمة، وأن تكون له نظرة استشرافية لما يمكن أن يكون عليه المجتمع والدّولة في إطار نظرة شمولية تأخذ بعين الاعتبار العوامل الجغراسياسية للمنطقة والعالم. ولا يعتبر الدكتور كرامتي أنّ الفكر هو الجامع الوحيد بين أفراد الحزب السياسي الذي يرى أنه «التقاء مجموعة من الناس حول برنامج يفترض أنه يطمح إلى تغيير ما هو كائن أو تطويره وتحسينه أو دعم بقائه انطلاقا من عنصرين هما نسق انتماءات (طبقية جهوية فئوية) ونسق مرجعيات فكرية فلسفية وثقافية. ويضيف كرامتي أنّ «الدوافع الأساسية للعمل السياسي هي الرغبة في التغيير أو المساهمة في ذلك والإحساس بنوع من التكليف من أجل إنجاز مهام محدّدة يفترض أنها ضرورية ومستعجلة لاستمرارية المجتمع، غير أنّ بعض الفاعلين السياسيين وبعض الهياكل المشاركة في العمل السياسي قد تكون لها «أجندتها الخاصة» ومنافعها الذاتية الضيقة، ولتحقيقها قد تتخفّى وراء مجموعة من الاستراتيجيات من بينها الدفاع عن بعض المبادئ والقيم المشتركة والتي ليس حولها تنازع والتحسيس بأنها في حالة خطر محدق أو محاولة احتكار الهيمنة الرمزية والظهور بمظهر المدافع الوحيد عن مصالح المجتمع والدّولة. أمّا الدكتور وناس فيربط تعريف السياسة بالدافع للعمل السياسي، فهو يرى أنّ «السياسة هي القدرة على تدبير شؤون المدينة والقيام بمستلزمات الشأن العام، كما أنّ السياسة هي فن الممكن والذكاء في التسيير والعقلانية في تدبير الشأن العام فيكون السياسي – مفردا أو جمعا – فاعلا يسخّر حياته جزئيا أو كليا لخدمة الشأن العام والانخراط في الحياة السياسية . وحسب وناس، هناك مدخلان للعمل السياسي، أولهما المدخل الفردي، أي أنّ هناك من الأفراد من يعتبرون أنفسهم مؤهّلين للمشاركة في الحياة السياسية انطلاقا من قدراتهم الذاتية وتجاربهم الشخصية أمّا المدخل الثاني فهو أفراد ينحدرون من أُسر متفرّغة للسياسة وتعتبرها مهنة عائلية يتم توارثها بين الآباء والأبناء. عمل جليل؟ أما الدكتور كرامتي فيعلّق بالقول «إذا سلّمنا بأنّ جوهر العمل السياسي يقوم على خدمة الغير فإنّ هذا هو أجلّ الأعمال ولكن يجب على المرء أن يحسن فهم الوضعية حتى يحسن تقديم المساعدة المطلوبة وأن يكون مخلصا في خدمة الآخرين لا في خدمة نفسه... والمفترض أنّ الفعل السياسي يقوم على التطوّع غير أنّ ما يمرّ به مجتمعنا من تحولات أدت إلى بروز «محترفي العمل السياسي» بقطع النظر عن فكرة التطوع والتفرغ. ويضيف كرامتي أنّ «العائلات السياسية في تونس تعيش مرحلة تأسيسية في ظرف محلي وإقليمي ودولي استثنائي، وهي تتحسّس خطاها في الفعل السياسي الجادّ، وكلّ الأحزاب تشهد حراكا داخليا أحيانا بخصوص إعادة الهيكلة وأحيانا أخرى بخصوص إجراء مراجعات فكرية وإيديولوجية لكن المطلوب اليوم إرساء مدوّنة سلوك سياسي يُعيد هذا الفعل إلى نُبله وأهميته في صياغة نمط المجتمع والدّولة. وفي سياق متّصل يقول الدكتور منصف وناس إنّ «ما هو متعارف عليه أنّ لكلّ حزب مرجعيته الإيديولوجية والثقافية والسياسية باعتبارها هي التي تقود حركيته وهي التي توفّر له الأرضية المشتركة بين كلّ أفراده ومنتسبيه، لكنّ الظاهرة الجديدة التي لم تُدرس بما فيه الكفاية هي الأحزاب الجديدة التي ليست لها مرجعية إيديولوجية واضحة وإنّما تحرص على أن تكون براغماتية ومتغيّرة من مرحلة إلى أخرى دون عناء. توظيف الأحزاب ويضيف الدكتور وناس «وحتى الأحزاب التي تملك مرجعيات إيديولوجية واضحة وثوابت مُجمع عليها يمكن أن تُستغلّ وتوظّف بشكل سلبي، بدليل ظهور ما يُسمّى المال السياسي على ما فيه من مشاكل وتعقيدات، كما نشير إلى أنّ الأحزاب التي لا تملك إيديولوجية واضحة يمكن أن تساهم في تدنّي مستوى الخطاب السياسي ولعلّ هذا ما يطرح ضرورة أن تتحلّى قيادات الأحزاب السياسية بمصداقية أخلاقية وبشفافية تسييرية وخاصة بحرص اكيد على المصلحة العامة». ويؤكّد الدكتور وناس أنّ «مسألة تسيير الشأن العام ينبغي ألّا يحتكرها السياسي فقط لأنّه ثمة مجالات وقطاعات تحتاج إلى أهل الاختصاص أي العارفين بالمعطيات والمقاربات وخاصة الملفات، وقد رأينا في تجارب عديدة أنّ وزارات معينة تحتاج للتكنوقراط تمّ إسنادها إلى سياسيين وإيديولوجيين ممّا أدّى إلى نتائج كارثية من حيث التسيير» معتبرا أنّه إذا كان وجود الفاعل السياسي مهمّا وضروريا في تسيير الشأن العام فإنّ حضور التكنوقراط مهمّ وضروري بالدرجة ذاتها». أمّا الدكتور كرامتي فيعلّق بالقول «اليوم نحتاج إلى شيء من الوضوح والنزاهة الفكرية في تقديم المرجعيات والتصوّرات والبرامج الحقيقية لمختلف الفاعلين السياسيين والسعي الجادّ إلى قيام كيانات سياسية واضحة وقوية ولها امتداداتها الشعبية، فما لاحظته من نقاشات خلال الحملة الانتخابية لم يكن واضحا وجليّا لدى الناخب التونسي التمييز بين الأحزاب على مستوى مرجعياتها وقد يكون ذلك متعمّدا من طرف البعض للحصول على أكثر أصوات، وهذا يعكس حالة استثنائية تعيشها الساحة السياسية التونسية وآمل ألّا تطول كثيرا». وأضاف أنه «من الطبيعي أن تستغرق الكيانات السياسية بعض الوقت في الدّربة السياسية في انتظار أن تحسم أمرها ويفرز كلّ حزب «لونه» السياسي بكلّ وضوح، فالعمل التعبوي وإن كان جزء من النشاط السياسي يجب ألّا يختزل فيه لأنّ العمل الحزبي أشمل من ذلك من حيث صياغة البرامج والتصورات والحوار مع السياسيين المنافسين حول النقاط التي يمكن أن تؤدّي إلى اتفاق جزئي ومحاولة كسب التأييد بخصوص النقاط الخلافية فضلا عن الأنشطة التكوينية التي تساهم في كسب الأنصار وإعدادهم للعمل السياسي السّليم». وخلص الدكتوران وناس وكرامتي إلى القول إنّ السياسي لا بدّ أن يكون ذا إحساس مرهف بالمجتمع الذي يعيش فيه وأن يكون عيشه بين الناس ومع الناس ليؤثّر فيهم بقدرته على فهم التحديات وتصوّر الحلول الناجعة مع مراعاة الوضع المحلّي والإقليمي والدّولي.