رغم مغادرته للمكتب التنفيذي الوطني إلا أن عبيد البريكي ظلّ رقما مهما في المعادلة النقابية. وشغلت تصريحاته الناس وأثار حوله ضجة كبيرة.. تحدث ل«الشروق» عن السياسة والثورة والعمل النقابي والوضع الحالي في تونس. سنة مرّت على ثورة الحرية والكرامة في تونس بما فيها من اشكالات ومصاعب وصراعات، كيف ترى الحصيلة؟ رغم أنه من الصعب التقييم الدقيق لمسار الثورة في بلادنا من البديهي الاقرار بأن لكل مسار إيجابياته وسلبياته حيث أنه لا يختلف اثنان في أن الجانب النيّر لإنجازات شعبنا بصرف النظر عن الاختلافات وعن النتائج هو التمكّن من فرض خيار المجلس التأسيسي لإعداد دستور جديد الأمر الذي صنع الفارق بيننا وبين ما يحدث في مصر، ثم الاعداد لانتخابات نزيهة وشفافة رغم بعض التجاوزات التي لم تمسّ من الجوهر، ثم إنجاح العملية الانتخابية يوم 23 أكتوبر 2011. مسار لا بدّ من تثمينه والتوقّف عنده، ولكن دون التغافل عن ذكر السلبيات وهي كثيرة، بدءا بعدم اقبال 50٪ من الشعب التونسي على الانتخابات لأسباب وجب التعمّق في دراستها بالاضافة الى مظاهر الانفلات التي شملت مختلف الميادين وكافة المجالات في ظل نجاح البعض في خلق صراع وهمي انخرط فيه البعض عن غير وعي وانحرفوا به، عن جوهره الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الى صراع ديني الهدف منه عزل مجموعة بتهمة الكفر والزندقة والالحاد، ممارسة خطيرة وضعت المسار في موقع المتهم والمستهدف زادها واقع التفرقة والتشتت وعجز القوى التقدمية عن الالتقاء حول أرضية عمل دنيا تمكنها من التموقع في خضم حركة الصراع في ظل قانون انتخابي غرس في مكوناتها أملا قويا في التمكن من عضوية المجلس التأسيسي، كما أنه من الضروري الاشارة أيضا الى أنه من السلبيات احتدام الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعد الانتخابات واستمرار تبادل التهم واعتماد بعض المتخصصين في الشبكات الاجتماعية أسلوب تشويه كل من يخالفهم الرأي أو كل من يتعرّض الى الحكومة بالنقد حتى إذا كان بنّاء والغاية منه الاصلاح وهي النزعة التي عمّقت التوتر والتي أعطت للبعض من المتطرفين في الدين الضوء والأخضر لاعتماد العنف في المؤسسات الجامعية والتربوية، وفي الساحات العمومية وضد الاعلاميين وبعض المفكرين في محاولة لضرب حرية الرأي والتعبير. تحدّثت عن حملات التشويه التي تستهدف مناضلين تقدميين والواضح أنك تقصد أن مصادرها منتسبون الى حركة النهضة ولكن ما رأيك في ما تمّ بثه حول وزير الداخلية علي لعريّض؟ بقدر ما أثمّن الدور الذي لعبته الشبكات الاجتماعية «فايس بوك» في توجيه الثورة وفي إنجاحها أدين كل مظاهر التشويه التي تستهدف بعض الرموز السياسية وعموم المواطنين باعتبارها أساليب لا تتقدم بالصراع الفكري بل تعمّق الحقد والتطاحن والتسابب وتمسّ الأسر من اختلالات وافتراءات وأباطيل.. نعم للصراع الفكري، نعم للاختلاف لكن لا للتشويه والتهجّمات المجانية. تشهد تونس شمالا وجنوبا، شرقا وغربا اعتصامات عديدة ومتنوعة وموجة اضرابات ازدادت حدّة في المرحلة الأخيرة يرجعها البعض من أعضاء الحكومة الى النقابات ودعا بعضهم في المجلس التأسيسي الى التعامل معها بالتقتيل والصّلب وقطع الأيدي.. مقاومة للفساد وتعطيل مصالح المواطنين، فأين المسؤولية؟ لا بدّ من الاشارة أولا الى أن العنف لا يمكن أن يكون حلا لتجاوز الاشكالات وكل مظاهر التأزم ولو كان هذا الخيار حلا لتوصّل الرئيس المخلوع الى اخماد نار الثورة والى الاستمرار في الحكم. المعتصمون ضحايا خيارات خاطئة عمّقت الفقر والحرمان وحرمت المواطنين من حق الشغل وحرمت جهات بأكملها من رغيف العيش ومن حقها في التمتع بما تزخر به من خيرات طبيعية تصدّر خارج تونس وتستمتع بمردودها العائلات المتنفّذة. فهل من المعقول أن نتعامل مع الضحايا بمنطق التقتيل والصّلب وقطع الأيدي والأرجل؟ ألا يكفيهم الحرمان والتجويع والقمع في عهد المخلوع قتلا وإبادة؟ إن الاعتصامات أصناف منها ما هو مؤطر من قبل النقابات وأعتقدها المؤهلة، من خلال حوار هادف، من الأطراف المهنية على قاعدة المطالب المطروحة لتجاوزها، أما الاعتصامات الأخرى التي لا يجب ومهما كانت الأسباب أن تصل حدّ تعطيل شؤون المواطنين ولا سير المؤسسات والتي لا يجب وبأي شكل أن تصل الى حدّ الاعتداء على المؤسسات العامة والخاصة فالحل يظل في الحوار مع المعتصمين لا في تجريمهم والتهديد بالعقاب والزجر. ومن المفيد الاشارة في المجال الى أن تحميل مسؤولية التوتر للنقابات أو للمعارضة حل مغلوط لن يتقدم بالجميع قدر أنملة في تطويق للاعتصامات، لأن المعارضة في الدفاع عن نفسها، سوف تعسّر في ردّها، الحكومة مسؤولة عن ذلك، لأنها لا تملك برنامجا عمليا واضحا يعتمد الأجل والعاجل في حل المشاكل العالقة، وتسقط بهذه الطريقة في تبادل التهم، ويضيع الوقت كما ضاع جزء كبير منه في تشكيل الحكومة، ويستمرّ الفراغ الذي تأباه الطبيعة ويستمر في جدل غير مجد، فكّ الاعتصام شرط للتنمية أم أن الشروع في برامج تنموية هو الطريق الى فضّ الاعتصام؟ وما رأيك؟ أعتقد أن البحث عن حلول مجدية في وضع اقتصادي أصبحت فيه نسبة النمو ما يقارب (1 ) وتجاوز عدد العاطلين فكّه 850.000 ووصلت فيه الاعتصامات ما يقارب 516 اعتصاما منها ما يفوق، 300 غير مؤطر يستدعي العودة الى الأسباب الرئيسية للثورة ولدوافعها. لقد كانت نسبة النمو قبل الثورة تتراوح بين 5 و6 وأحيانا 7٪، فالشعب التونسي، رغم القمع وخنق الحريات شعب مبدع، منتج وخلاق ولكن الاشكال كان في منوال التنمية حيث أن الثروة التي كان يحققها شعبنا لم تكن توزّع توزيعا عادلا لا بين الجهات ولا بين الفئات الأمر الذي خلق تناقضا حادا بين الجهات وتناقضا صارخا بين الطبقات، فالنمو الحاصل لم يؤدّ الى تنمية عادلة، فطغى الفساد والرشوة والمحسوبية وإثراء عائلات متنفّذة وبيعت المؤسسات العمومية لشخصيات معينة وتمّ التفويت بالكراء في الأراضي الدولية لأشخاص بقروض بنكية ومن أجل إدراك ذلك ساد القمع وضرب مكونات المجتمع وأصبح العنف سبيلا لضرب الرأي المخالف وانعدم الحوار رغم أنه مضمون نظريا في القوانين فكان انتفاؤه على أرض الواقع سببا من الأسباب التي أدّت الى الثورة حيث أقدم الشهيد البوعزيزي على الانتحار حيث لم يجد من ينصت إليه من المسؤولين الذين لجأ إليهم في الجهة. لقد قامت الثورة، إذن، من أجل: تنمية عادلة ومتوازنة بين الفئات والجهات. العدالة في الانتداب والحق في الشغل. الحق في العمل اللائق. الحريات العامة والفردية: التعبير الحرّ والاعلام الحرّ. استقلالية القرار والسيادة الوطنية. ولكنها مبادئ عامة والمطلوب اليوم الحلول العاجلة لإنقاذ الثورة؟ أجل، المجتمع اليوم يحتاج الى توافق بين مكوناته عبر الايمان الفعلي بتشريك الآخر فالحكومة، دون تفاعل مع المعارضة لن تتمكّن من التجاوز وهذا ما بدأ يتضح من خلال الخطاب الأخير للوزير الأول أمام المجلس التأسيسي فالجميع يجب أن يشعروا بأنهم شركاء في المعاناة وشركاء في التجاوز بعيدا عن السباب المجاني، وخطوة المجلس التأسيسي تستوجب اليوم حوارا وطنيا في ندوة موسّعة تشارك فيها الحكومة والأحزاب السياسية المعارضة ومكوّنات المجتمع المدني وممثلون عن العاطلين عن العمل وعن المعتصمين وأكاديميين مختصين حول قطب الرّحى في حصيلة اليوم: التشغيل، تحت عنوان «التشغيل: الواقع والآفاق والآليات» يخصّص فيها ورشات لبحث الاستثمار وشروطه، تقيّم فيه تجربة التخصيص ويخصص فيه ورشة عمل حول الاعتصامات: أسبابها وآليات الاحاطة بها تتوج كلها بورقات عمل، على أن تكون الندوة الوطنية مسبوقة بلقاءات جهوية بين كل المكونات فبالحوار جهويا ومحليا ووطنيا يشعر الجميع بدورهم في صنع التنمية بمفهومها الجديد. أما الحل العاجل الثاني فهو في دعوة أصحاب المؤسسات الباحثين اليوم عن عوامل الاستقرار الى المساهمة من موقعهم في استيعاب عدد من العاطلين عبر التزامات المؤسسات الكبيرة بانتداب عاطلين عن العمل والمتوسطة والصغيرة بانتداب عاطل عن العمل وتوجه بذلك رسالة واضحة الى المعطّلين في المناطق الداخلية تساهم بشكل عملي في التقليص من حدّة التوتر. ومن الاجراءات التي كان لا بدّ من اتخاذها تجسيما لمبادئ الثورة هي المتعلقة بمراجعة جوهرية لمسار الماضي إذ لكل ثورة إجراءاتها الجذرية، فالثورات أمّمت الأراضي وأمّمت قناة السويس وأعادت توزيع الثروات، والثورة ليست في الاقتصار على تحسين مردود العائلات المعوزة أو في الوعد باستثمارات آنية بل في قرار استرجاع الأراضي الدولية وفي استرجاع المؤسسات التي هي على ملك عائلة الرئيس المخلوع وأصهاره واسترجاع الأموال المهرّبة، وإقرار مراجعة الديون مع الخارج، أو على الأقل فرض توظيف فائض الديون من أجل مشاريع تنموية في إطار محاولة جادة لتسويق ثورة تونس التي لم تسوّق في العالم بشكل يعود بالنفع على عموم الشعب وعلى التنمية في بلادنا، اجراءات عاجلة وأخرى قد تنبثق عن الندوة الموسّعة التي آن الأوان لوضعها حيّز التنفيذ بالاضافة الى الآجلة التي وجب أن تقوم على مراجعة السياسة الصناعية والفلاحية والسياحية بمنطق آخر يقطع مع أساليب الماضي فسياسة كراء الأراضي للاثرياء لم تفلح وسياحة البحر منقوصة والصناعة التي تعتمد تصدير مواطن الشغل (المواد المنجمية، الفسفاط) وتوريد البطالة يجب ان تراجع كل ذلك بالاضافة الى رسالة أخرى لابد منها هي: الالتزام بانهاء مناقشة الدستور في الآجال المتوافق عليها إذ لا يعقل ألا تنطلق الحوارات حوله بعد ان مرّت على الانتخابات الثلاثة أشهر. ما هو دور الاتحاد في كل هذا؟ لست مؤهّلا للاجابة اليوم عن دور الاتحاد باعتبار دوره ومهامه وآفاق عمله من مشمولات هياكله وقيادته، ولكن أقول من موقعي كنقابي قاعدي أن الاتحاد الذي نشأ ونما في ظل معركة التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي، والذي بلور كل تصوراته ومواقفه التاريخية على قاعدة التلازم في النضال بين الابعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يظل معنيا بكل الشؤون: له أن يناضل من أجل منوال تنمية عادلة تضمن المساواة بين الجهات والفئات وتصون الحقوق الاساسية للعمال والحقوق والحريات النقابية وحق المرأة العاملة والحق في تعليم وطني شعبي وديمقراطي والحق في الشغل القار والحق في صياغة دستور ديمقراطي شعبي يعكس طموحات شعبنا بكل فئاته. ذاك هو دور الاتحاد ولا أعتقد أن النقابيين مهما حاول البعض تشويههم او ارباكهم على استعداد للتفريط فيما افتكوه من مساحات عبر التاريخ. ما هو تقييمك لعطائك النقابي خاصة في مرحلة الثورة؟ من المفروض أن تترك عملية التقييم للمتتبعين للشأن النقابي ولكني أعتقد أننا تمكنا بمعية زملائي الى الدفاع عن الاتحاد العام التونسي للشغل وعن البلاد رغم محاولات الارباك متعددة المصادر، تمسّكنا بمسار الثورة ووجدنا المواقف جهويا ومركزيا فاتهمنا بالتخريب من قبل رموز النظام السابق، رفضنا المشاركة في الحكومة وساهمنا في الاعتصامين الاول والثاني في ساحة القصبة فانهال علينا السب في الشبكات الاجتماعية، ووقفنا مع الفئات الاجتماعية الفقيرة (البلديات، المناولة...) فاتهمنا من قبل البعض باللاوطنية، أضربنا من أجل تطبيق الاتفاقيات الممضاة حول الزيادة في الاجور بعد انتخابات المجلس التأسيسي فقالوا الاتحاد ضد حركة النهضة ونشطت التشويهات من نوع آخر، لفقوا للأمين العام بعض التهم التي تعكس خلفية سياسية فتصدّينا... إني معتز بدفاعي عن الاتحاد العام التونسي للشغل وبالوقوف مع الفقراء ومع العمال الأكثر احتياجا ومعتز وأقول هذا اليوم من خارج «الماكينة» بموقفي ضد مساندة ترشيح بن علي ومعتز برفض كل الاوسمة بما في ذلك الصنف الاستثنائي لوسام الشغل. إن المهم أن الاتحاد بمناضليه اليوم وبقيادته المنتخبة في مؤتمر ديمقراطي رغم النقيصة الواضحة والمؤثرة والمتمثلة في تمثيلية المرأة والنقيصة الثانية المتمثلة في التمثيل المتكامل للمشهد السياسي، قادر على أن يواجه المرحلة المقبلة على تعمّدها وتشعب مكوناتها.