أغرمتُ بممارسة لعبة كرة القدم منذ صباي المبكّر. اعتاد والدي أن ينتقل بنا من مكان الى آخر حسب حركة رجال التعليم. ولم يكن امامنا غير «اللعب» للانغراس كل مرّة في تربتنا الجديدة. أمضيتُ الجانب الاكبر من طفولتي في قرية الشريفات على بعد كيلومترات من قربص. كانت قرية جميلة خضراء تعبق بروائح الخرّوب والصنوبر وأشجار البرتقال، يسكنها فلاّحون بسطاء طاب لهم فيها المقام قرب احدى اجمل المدن الاندلسية التونسية، سليمان. لم يكن ثمّة من تسلية في الشريفات لمن هم في مثل سنّي غير التجوال عبر الحقول او اختراع شتّى انواع الالعاب «الفقيرة». الجري في المسارب الملتوية على امتداد مئات الامتار دون ان تقع علينا اشعة الشمس، لقرب الاشجار بعضها من بعض. ركوب الدراجات المصنوعة من الخشب. مطاردة الفراشات. البحث عن اعشاش السماني. جمعُ أزهار الشمام التي تشمّ وتؤكل في الوقت نفسه. تطلّب الأمر منّا وقتا طويلا كي نتعلّم كيف نقتلع تلك الازهار العجيبة ثم ننزع اوراقها ثم نلتهمها ضاحكين. معها عرفت أن «الجمال» (هو أيضا) يمكن ان يؤكل اذا لم يكتسب مخالب تدافع عنه. غير ان اهم العابنا كانت دون شكّ لعبة كرة القدم. تيسّر لنا (أنا واخوتي) باعتبارنا «أبناء المدير» ان نستقبل اصدقاءنا داخل ساحة المدرسة، خاصة بعد انتهاء حصص التدريس وعند انصراف الوالد لقضاء بعض الشؤون. كنّا نتدبّر أمرنا للحصول على كرة بهذه الطريقة او تلك، ولتكن من قماش اذا تعذّر وجود كرة مطاطية، ثم نغافل الجميع لنتسلّل الى ساحة خلف سياج المدرسة فنتقاسم الادوار، فريق من هنا وآخر من هناك، مع تكليف احدنا بلعب دور الحكم. أذكر اني كنت العب بنهم وأحلم بأن اصير لاعبا كبيرا ونجما من نجوم فريقي المفضّل. شغفي بممارسة هذه اللعبة بلغ حدا ازعاج والدي، الذي لم يدّخر جهدا في سبيل اغرامي بالادب او باحدى الرياضات الذهنية. أذكر أوّل رقعة شطرنج جاءني بها. كانت رقعة من صنعه. مربّعات بقلم الرصاص على لوح من تلك الالواح التي يستعملها تلاميذ المدارس المهنية لتثبيت اوراق التصوير الهندسيّ. اما البيادق وسائر القطع فكانت من «القنانيط»، بكرات الخيط التي وضعتها أمّي جانبا بعد ان استنفدتها حتى الرمق الاخير على ضريح ماكنتها «السينجر» العتيدة. وقد احببت ذلك كلّه، وكنت مقرا العزم (بسذاجة أحسد عليها والحق يُقال) على ان اكون اول اديب يكتب مثل العرب الأقحاح ويلعب الشطرنج مثل الشياطين الروس ويمارس كرة القدم كعفاريت البرازيل. ولعل الامر لم يكن صعب المنال. وربّما كان في وسع القارئ ان يجدني اليوم على بنك لاعبي منشيستر يونايتد او ريال مدريد (وما ادراك ما...) لولا حدوث ما حدث. كنت في التاسعة او العاشرة من عمري وكان الوقت صيفا وكنا في ذروة المقابلة. وصلتني الكرة. راوغتُ اللاعب الاول ثم الثاني مقتربا من مرمى المنافس. رفعت رأسي وألقيت نظرة على الملعب كما يليق بكلّ لاعب يحترم نفسه. دغدغ أذني حفيف الصنوبر مختلطا بأصوات صبية خيّل إلي أنهم يهتفون باسمي. أحسست للحظات بنشوة قريبة من الاغماء وتخيّلت أني في ملعب كبير وأن آلاف العيون تنظر اليّ... قرّرت ان احتفظ بالكرة وأن احاول التسجيل بمفردي. فجأة امتدّت ساق احدهم (لا اذكر اسمه الآن) وحصدتني حصدا من على ساحة اللعب. سقطت ارضا وسمعت دويا هائلا اكتشفت فيما بعد انه صوت احتكاك مرفقي ورأسي بالحصى. لم تكن تلك اول مخالفة ترتكب ضدّي فاللعبة توأم للمخالفات، لكنها كانت مخالفة ذات طعم خاص، اتّفق في ذهني مع تعليق لم يغادر ذاكرتي حتى الان... نهضتُ مترنّحا معتقدا أن «الحكم» قد صفّر دون شك، لكن اللعب تواصل... اقتربت من «حاصدي» صارخا مهدّدا فإذا هو يستقبلني بدهشة، سائلا: ولمَ الغضب؟ أنا لم ارتكب خطأ ما دام الحكم لم يتفطّن الى ذلك. «مستقبلي الكروي» كلّه تحطّم بتلك الكلمات... لقد تربّيت طيلة حياتي على اجتناب الخطأ لاقتناعي بأنه خطأ، لا خوفا من أن يتفطّن اليه حكم ما. هكذا بات يقينا لديّ بأني لا يمكن ان افلح في الرياضة، ولا في اختها السياسة، لما لم تتغيّر المواهب المطلوبة في اللعبتين. بعد ذلك بسنين، شاهدت مارادونا يسجّل هدفا بيده ثم يُسأل عن ذلك فيقول انها «يد الله»، فيصفّق الجميع للغش الناجح ذي الروح الخفيفة... ما شاء الله... ها هو احد اكبر لاعبي العالم يؤكد حكمة العصر الجديد... ان ننسى اللعب الجميل والنظيف، وأن نؤمن بأن ا للعبة الوحيدة الممكنة، هي اللعبة التي يكفي ان تغفل فيها عين الرقيب، حتى تتحوّل يد السارق الى يد إلهيّة.