ثمة أناس لا نملك إلا أن نحبهم منذ اللقاء الأول ثم نتمنى على أقدارنا أن توفر لنا فرصا أخرى ميسورة للقاء والتعارف وعندما يحصل ذلك (وهو حاصل في العادة وإلا من أين كنا سنأتي بالقدرة على احتمال هذه الحياة المضنية) نفرح لالأننا حصلنا على حكم قيمة بالنزاهة والقدرة والمعرفة فهذا ما كنا ندركه فيهم منذ البداية ونعرف وجوده ومكان وجوده بالضبط بل لأننا كنا جديرين بهذه الصحبة وبهذه العلاقة المستمرة مع الأشخاص، الأفراد بتعبير «بورخس» ومع النصوص ولا علاقة لهذه الفرحة بنرجسية الشعراء بل بالحياة البسيطة والعميقة، تلك التي تملك على الدوام قدرات تجاوز خريطة الزيف التي على السطح في كل زمان. كنت عرفت نافلة ذهب الكاتبة من خلال قراءاتي وبحثي فيما اعتبره أحلى القصص التونسية لذلك الجيل الستيني/السبعيني الذي أحبه وأجلّه لأنه كان غزير الإنتاج والأكثر تعرضا ومعاناة لقضايا القص شكلا ومضمونا والأهم من ذلك أنه الجيل الذي امتلك الوعي بضرورة التجريب وهو أول جيل يحقق للنص الأدبي تاريخيته المضبوطة والمعروفة في تونس الحديثة وثبتت نافلة ذهب في ذاكرتي كاسم قصصي لا بد من متابعته وتوالت النصوص حتى كتابها الأخير «حكايات الليل» فكان هذا الحوار : * كيف أتيت الى القص؟ لم يكن الأمر صدفة فأبي كان من رجال الأدب، كان شاعرا يرشدني ويعطيني الكتب بدأت مع هواة الأدب بالاذاعة الوطنية أيام الشاعر أحمد اللغماني وهو الذي قدمني الى نادي القصة بنادي أبي القاسم الشابي بالوردية الى الشيخ العروسي المطوي وأحمد ممو ويحيى محمد وبقية الأصدقاء فبدأت أحضر وأكتب وأنشر في مجلة «قصص» أعرف ولعك بقصتي «القصر من القصر» لكنها لم تكن القصة الأولى لي قصص قبلها كانت قصة «الساعات» سنة 67 وقد ضمتها مجموعة أعمدة من دخان بعد ذلك. * تحضرني الآن قولة للمرحوم الطاهر قيقة الأب والكاتب وأعرف أنه أبا لك أيضا. قبل كتابة القصة لا بد أن «أجمع نفسي» وأصقل احساسي حتى أوحّد نظرتي وشعوري وأكيفهما بالوضع الذي أنا فيه فتلك عقبة أولى بسبب مزيج الثقافات والتأثيرات الحضارية والتي هي في أحد جوانبها بلبلة وشتاتا مع أنها ثروة فكرية وعاطفية لا بد من تجاوزها وهو جهد تأصيلي للتجربة نتعلمه من هذا الهرم التونسي فهل كنت تجمعين نفسك قبل الكتابة في كل مرة أم أن الأمور تكون محسومة عندك لا تثير تساؤلات أو ترددات عند الكتابة؟ نعم هو أب لي ولكل كاتب تونسي حقيقي أنا أيضا أنظف نفسي ثم أكتب ثم أعود الى كتابة أخرى وأراقب نصي وإذا وجدت شكا ما أكف عن الكتابة ثم أعود اليها بعد فترة أنا موسوسة جدا بهذا الصدد أقرأ وأعيد طبعا هناك الكبار الذين لا أتجاوزهم : الأول صاحب الواقعية النفسية هنري جيمس وطبعا رامبو في الشعر، المتنبي، الشابي والمسعدي فولكنر وستاينباك ثم اكتشفت أمريكا اللاتينية ورغم بعد اللغة والواقع ففيها أشياء كثيرة من العرب ثم كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. * في هذه المجموعة الأخيرة حكايات الليل وهي الرابعة في رصيدك نجد أنك ما زلت تراهنين على التقليل والتكثيف في القصة القصيرة، تكثيف اللغة وانتقاء الكلمات هل هي نهاية تجربة؟ لا ليست نهاية تجربة بل هي Fraction تطور في تجربة لا نستطيع تجديد الموضوع لكن نستطيع الاضافة في الشكل الإنشائية وانتقاء اللغة مقصود والتجويد والزينة وقدرات اللغة موجودة هذا تراكم في تجربته الخاصة. * نعرف الآن أن التجريب ضروري في كل مرحلة تاريخية لكنه ليس طلائعيا بالضرورة عند الجميع فكيف تنظرين الآن إلى حركة جيلك التجريبي؟ التجربة التجريبية برأيي كانت ايجابية لأنها وجدت أولا وحملها هذا الجيل ويكفي أنها وجدت وكان ثمة جيلا كاملا آمن بالتجريب ونفذه في نصوصه لأن التجريب وعي مخصوص بكل جيل وأنا متفتحة على الأجيال الجديدة لكني أحب جيلي الذي انتميت اليه لكن التجريب لا يتوقف لأنه وعي تاريخي، وعي بضرورة التجريب في كل مرحلة. * الرغبة في الأسطرة واضحة في هذه القصص الأخيرة تشكيل الكتاب في 6 أقاصيص و6 وحدات للقص و6 أيام واللازمة المكررة يا سادة يا مادة والحكاية في الليل وحضور الراوي والاصرار على ذلك في النص طبعا هذا لا وعي النص شكّ الكاتب بصلته بالواقع كما يقول النقاد وهو أمر ايجابي في تجربتك القصصية لأنه ضد مثالية الكاتب والكتابة في آن لكنه في الجانب الآخر وبسبب العمل على اللغة تظهر الحكاية أقل وطأة من الواقع ذاته الذي تحكي عنه وهو ما سيفسره المتلقي بالشخصية النموذجية في القصة أي بالقصة ذات المضمون الاجتماعي الهادف وهو أمر معقول عند كاتب واقعي لكن في تجربتك أنت ككاتبة تجريبية فالأمر يفرض السؤال؟ أردت ملاقاة القارىء لأني لم أتخيل أبدا القارىء من قبل فالأمر مقصود في هذه النصوص وحضور الراوي هو حضور القارىء أمامي ومخاطبته. أردت تشريك القارىء في هذه التجربة. أردت الخروج من عزلتي ووجود القارىء معي وأنا بصدد الكتابة. * هل هي العودة للقيم للمعاني الكبرى أم أنه لم يعد للمعاني معنى أم أنه فقط سبب اجرائي، بحث عن القارىء وترغيبه في الحضوء والقراءة!! لا كنت بحاجة لأقول أكثر لأن الواقع متعدد يتجاوز الخيال أحيانا خلب ولا يمكن الامساك به. * كلمة أخيرة! هل هناك نصوص أخرى! لا أعد بشيء لست راضية عن تجربتي فأنا دائمة البحث أجد أحيانا أني وُفقت وأحيانا أقول لنفسي لا أستقر في مكاني وأبحث لكن طبيعتي لا تسمح بالفرح والسرور.