بعيدا عن حسابات وتجاذبات الساسة يصطلي المواطن بنار الأسعار... وتبقى صرخاته أشبه ما تكون بصرخات في واد.
المسألة لم تعد تتعلق باللحوم الحمراء فقد لحقت بها اللحوم البيضاء... ولم تعد تتعلق بالأسماك، فقد لحقت بها الخضر والغلال... وبات جيب المواطن مشتتا بين الرغبات والضرورات والمواد الأساسية لسد الرمق...
كما أن المسألة لم تعد تتعلق بالمواطن فقط بل إن الفلاح يشتكي والتاجر يتذمر وتتجه أصابع الاتهام الى الوسطاء والى مسالك التوزيع... من المسؤول؟ ومن نتهم؟ وأية وصفات للعلاج والتجاوز؟
سوف يكون من قبيل الظلم والاجحاف التعجيل باطلاق السهام صوب الوزارات المعنية بالانتاج والترويج... كما سيكون من قبيل ذر الرماد في العيون توجيه الاتهامات نحو المراقبة الاقتصادية... فالمشكل أعمق بكثير... ويدرك كل عاقل ان حله يتطلب وقتا ويقتضي تضافر عناصر عديدة تبدأ بالسياسات والتوجهات الفلاحية وتنتهي بالأسواق مرورا بمسالك التوزيع وبشبكة المحتكرين الذين تمكنوا من كل القطاعات واستطابوا مص عرق ودماء المنتجين والمستهلكين على حد سواء.
من أين نبدأ؟ لعله من قبيل العدل والانصاف الانطلاق من الأوضاع الحساسة والهشة التي تعيشها البلاد... فإذا كانت السنة التي مرت سنة ثورة بماتبعها من اعتصامات واضرابات وتعطيل لعجلة الانتاج... واذا كان هذا الوضع الصعب قد تضاعف بظروف مناخية قاسية أفضت الى فيضانات والى تجريف آلاف الهكتارات من الأراضي الخصبة المخصصة للزراعات الكبرى وللخضر والفواكه... واذا كان صغار الفلاحين وهم السواد الأعظم من النسيج الفلاحي بالبلاد يرزحون أصلا تحت أعباء المديونية وفوائض القروض ويجدون أغلال الفاقة تكبلهم وتمنعهم من فلح أراضيهم وبالتالي من الاسهام في معادلة الانتاج والانتاجية... اذا كانت كل هذه العوامل قد تضافرت واجتمعت فإنه سيكون من باب العبثية انتظار وفرة في الانتاج تبقى وحدها الكفيلة بتعديل الاسعار من خلال التأثير في معادلة العرض والطلب.
ثم ماذا؟ يحق للسائل أن يسأل عن دور الدولة وعن أداء المصالح والأجهزة المختصة وبصفة خاصة في ما يتعلق بأداء جهاز المراقبة الاقتصادية بما هو ردع للمخالفين وللمستكرشين ولمن استطابوا التلذذ بعرق الآخرين والاثراء على حساب الفلاح الصغير من جهة وعلى حساب المستهلك من جهة أخرى...
الاقتراب من هذه المعادلة يتطلب نوعا من الصراحة... صراحة تضعنا جميعا أمام المرآة... فإذا كانت البلاد وفي كل المجالات تجد صعوبة في اعادة ارساء علوية القانون بما يعنيه من اعادة للأمن والاستقرار... واذا كان رجل الأمن يحتاج بدوره الى الأمن نتيجة تواصل بعض السلوكات التي كانت مفهومة في الاشهر التي تلت الثورة والتي لم تعد مفهومة ولا مبررة في زمن تحتاج فيه البلاد الى العودة الى العمل والى إعادة اطلاق العجلة الاقتصادية لتفادي وضع كارثي بدأ يطل برأسه نتيجة الأزمة الشاملة التي مازالت تضرب قطاعات حساسة وحيوية في دورة اقتصادنا الوطني... اذا كان الوضع الأمني والاجتماعي بهذه الحساسية والهشاشة التي تعيق تطبيق القانون من قبل رجال الأمن احيانا وحتى من قبل القضاء أحيانا أخرى، أفلا يكون من الحيف والاجحاف توجيه أصابع الاتهام نحو أعوان المراقبة الاقتصادية وهم على تماس مباشر بعقلية التمرد في الاحياء والأسواق حيث تغيب القوانين والنواميس العادية لتتكلم الأمزجة ولغة المصالح وحسابات الربح والربح السريع فحسب؟.
ما الحل اذن؟
بكل تأكيد فإن المخرج يبدأ بمصارحة المواطن أولا... المواطن المستهلك والمواطن التاجر والمواطن الفلاح والمواطن المتدخل من قريب أو بعيد في عملية الانتاج والاستهلاك فهناك مسؤوليات وأعباء تقع على عاتقه ولابد من النهوض بها. فالمفتاح الرئيسي في هذا الباب هو عودة الأمن والاستقرار لتوفير الأرضية الملائمة لعودة عجلة الانتاج الى دورانها ولعودة أجهزة الدولة الى لعب دورها الطبيعي والعادي في تأمين عملية التزويد وفي مراقبة مسالك التوزيع وفي ردع كل المخالفين والمحتكرين..
بعد هذا يأتي وعي المواطن ونضجه... فإذا وجد ارتفاعا غير عادي لهذا النوع من الخضر أو ذاك فإن سلوكه الاستهلاكي حيوي في التأثير على معادلة العرض والطلب بشكل يفضي الى التخفيض في الاسعار... وإذا كان مفهوما ارتفاع اسعار الخضر أيام الامطار الطوفانية والبرد القارس لصعوبة وصولها لاستحالة عملية الجمع وتزويد الاسواق، فإن ما يبقى غير مفهوم الاصرار في تلك الايام على طلب البصل مثلا والتذمر من ارتفاع ثمنه مع انه بالامكان طهي الطعام بلا بصل او طهي أطعمة لا تحتاج البصل أصلا حتى تمرّ الموجة فيتعدّل التزويد وتعتدل الأسعار.
وقبل هذا وبعده، متى ندرك جميعا ان تخفيض الاسعار والضغط عليها تصنعه الوفرة؟ وفرة الانتاج التي تبقى الكلمة السحرية القادرة على لجم جنون الأسعار وعلى توفير انتاج في متناول جيوب التونسيين مهما كانت مستويات دخلهم...
والوفرة تقتضي التشمير على سواعد الجد واعادة الاعتبار للعمل كقيمة بها تتحقق الرفاهة وتستعيد الاسعار عقلها... ومتى اقتنعنا بهذه المعادلة وعدّلنا سلوكاتنا وبرامجنا على أساسها فسنكون قد أدركنا قارب النجاة... وإذا ما تمادينا في اشعال النيران والتساؤل عن مصدر الدخان فسوف لن يكون مصيرنا أفضل من مصير النعامة حين تكتشف بعد فوات الأوان بأن دكّ الرأس في الرمل لا يعني النجاة من الخطر.