صدرت حديثا عن «منشورات كارم الشريف» رواية «أحباب الله» للكاتب التونسيّ كمال الشارني. وهذه الرواية تندرج ضمن لون أدبيّ مخصوص شهد ، بعد الثورة التونسيّة ،
ازدهارا وانتشارا واضحيْن هو «أدب السجون». ومثل جميع الروايات التي اتّخذت من السجن محورا لها، أو إطارا مكانيّا لأحداثها جمعتْ هذه الرواية بين أنواع سرديّة شتّى مصوّرة، من خلالها، تجربة اعتقال الكاتب/الراوي بعد أن حُكِم عليه بالسجن مدّة خمس سنوات ونصف على إثر مشاركته في التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها تونس سنة 1986 .
وقد تشكّلت فصول هذه الرواية من خلال استرجاع صور السجن وإعادة بنائها ونظمها في سلك يجمعها على تشتّتها وتباعدها..كلّ الرواية هبوط في أعماق الذاكرة ، دخول في دهاليزها المظلمة، وسعي إلى إخضاع ما اختزنت من مشاهد وأحاسيس إلى قانون التقطيع والاختيار لتصبح ، في آخر الأمر ، بناء فنّيا منسجما يتضمّن جماليّته وتنظيمه المخصوص...
وقد تعمّدت هذه الرواية إلغاء الحدود بين الكاتب والرّاوي من ناحية ، وبين الرّاوي والشخصية الرئيسيّة من ناحية أخرى.كما تعمّدت إلغاء الحدود بين أجناس أدبيّة كثيرة مثل السيرة الذاتيّة والمذكّرات واليوميّات..الكاتب نفسه لم يحدّد على نحو واضح الجنس الذي ينتمي إليه نصّه . ففي الغلاف أثبت أنّه ينتمي إلى جنس الرواية بينما أشار في المقدّمة إلى أنّه من جنس المذكرات حينا، وجنس اليوميّات حينا آخر بل ربّما وجدناه يصف هذا النصّ ب«الوثيقة عن مرحلة شديدة البؤس من تاريخنا الوطنيّ الحديث..» ويزداد الأمر غموضا حين يكتب في إحدى عتبات النصّ : «لا شيء من هذا حدث ...كلّ هذا ليس إلاّ أدبا..»
والواقع أنّ الكاتب قد مزج بين كلّ هذه الأجناس على تباعدها وتنافرها، مستنفرا طاقاتها التعبيريّة والتخييليّة ليقول، من خلالها، تجربته ويفصح عن غائر مشاعره وعميق رؤاه... لكأنّ الجنس الواحد بات قاصرا عن أن يقول هذه التجربة ...قاصرا عن أن يحيط بكلّ تفاصيلها .لهذا توسّل الكاتب بأكثر من جنس، بأكثر من طريقة أداء . ومن بين هذه الأجناس نجد الشعر يتردّد في فضاء الرواية يحمل عن الكاتب عبء الإفصاح عن التجربة...شعرا نظم بالعاميّة التونسيّة لا يُعْرَف اسم قائله يأتي من أعماق التاريخ مفعما بآلام العشّاق وأوجاع العاشقات يخبر عن قصص طواها النسيان .. قصص الحبّ تنعقد في السرّ، قصص الهجرات نحو الغرب التونسيّ، قصص الخيانات تفرّق بين الأحبّة..ّوفي هذه المراوحة بين السرد والشعر ما يذكّر القاريء بالتراث السرديّ العربيّ.
لكنّ هذه الرواية لم تسترفد من التراث السرديّ تقاليد المراوحة بين المنظوم والمنثور فحسب بل استرفدت أيضا ، عن وعي منها أو عن غير وعي ، بنية الحكي التراثيّ القائم على حكاية إطاريّة كبرى تضمّ أمشاجا من الحكايات الصغرى يتوالد بعضها من بعض وفق منطق التداعي..لهذا نجد العلاقات بين هذه القصص تنتظم حينا وتنفرط حينا آخر..لكنّها في كلّ الأحوال لا تخضع لنظام مسبق يجمع مفترقها ويشدّ مختلفها. والقصّة الإطاريّة الكبرى ، في هذه الرواية ، هي قصة الكاتب يكابد محنة السجن وهو لم يزل يافعا هشّا ، غير قادر ، بعد ، على فكّ أبجديّة الحياة والكون أو كما جاء في العنوان ، مازال من «أحباب الله» الأبرياء... وداخل هذه القصّة الإطاريّة تتضامّ جملة من القصص الصّغرى تروي محنة عدد من المساجين الآخرين القابعين في هذا الجحيم الذي يسمّى سجنا ، منها قصّة السّجين الذي فقد عقله فعلّق في حزامه ملاعق وأكوابا من البلاستيك ومضى يحدّث مكانا معيّنا من جدار الغرفة...وقصّة السجين الذي مافتئ يضرب رأسه على الجدران ..وقصّة السجين الذي يأكل الأوراق ،وقصّة السجين الذي يكتب رسائل لا تصل إلى أحد...قصص يتناسل بعضها من بعض تماما كما هو الشأن في الحكي التقليدي..
وهذه البنية المرنة هي التي جعلت من الرواية فضاء حرّا، ونصّا مفتوحا يستوعب الكثير من القصص المتخيلة والشهادات الواقعيّة يؤاخي بينها دون تعمّل أو إكراه.. والمتأمّل في هذا النصّ يلحظ أنّ فصوله مراوحة بين مرجعيّة واقعيّة تحاول أن توثّق لمرحلة من تاريخ تونس وترصد كلّ تفاصيلها ..وبين نزعة فنّية تحاول أن ترقى بهذا النصّ، على واقعيّته المفرطة أحيانا، إلى منزلة الرواية، حيث تنسكب التجربة الذاتيّة في فضاء تخييليّ محض.