أريد التوقّف عند عبارتين من العبارات الرائجة هذه الأيّام: عبارة «الحكومة لا تملك عصًا سحريّة» وعبارة «الدولة ليست بقرةً حلوبًا»، بعد أن أصبح جريانهما مكرورًا على لسان أكثر من وزيرٍ بشكل يدفع إلى الحيرة!
هؤلاء هم الذين وعدُونا بقطيع من «البقرات السّمان» ملوّحين لنا بعصيّهم السحريّة أثناء الحملة الانتخابيّة مُمَنِّينَ المُواطنَ بدواءٍ لكلّ داءٍ دون أن نعرف سحرهم أسود أم أبيض! فلماذا يتوعّدوننا اليوم بقطيع من «البقرات العجاف»؟ وكيف يسحرون المؤقّت إلى غير مؤقّت إذا كانوا بلا عصيّ سحريّة؟!
للعصا تاريخٌ لا تنقطع فيه الصلة بينها وبين السحر من جهة وبينها وبين البقرة من جهة أخرى. ولعلّ أقدم العصيّ السحريّة التي احتفت بها الأسطورة عصا هرمس الذي استطاع وعمره يوم واحد أن يصنع آلة اللير وأن يسرق بقرات أبولون وأن يوقد نارًا ليشوي عليها بقرتين قربانًا لآلهة الأولمب.
عزف هرمس على آلته فرضي أبولون بالتنازل عن أبقاره مقابل تلك الآلة. قبل هرمس بالعرض واخترع آلة أخرى هي ناي الراعي. فافتتن أبولون بالناي وأراده فقبل هرمس إعطاءه الناي على أن يعطيه أبولون دروسًا في السحر وأن يتنازل له عن عصاه السحريّة التي كان ينوّم بها البشر.
هكذا أصبح هرمس في الأسطورة وسيطًا بين الآلهة والبشر فعلّمهم أهمّ معارفهم دون أن ينسى التحيّل. إذ استعمل عصاه لتنويم شيوني فأنجب منها أنطوليكوس ملك اللصوص والمزوّرين المختصّ في سرقة قطعان البقر.
تبدو أسطورة هرمس أفضل مثال على السياسة بجانبيها التنويريّ والمعتم. ولكن من قال إنّ السياسة ليست في الواقع أيضًا ضربًا من السحر؟ لقد أصبحت عبارة العصا السحريّة كناية عن كلّ قدرة على تحويل الأشياء في نوع من الخيمياء. هكذا تحدّث فيكتور هوغو مثلاً في مقدّمة كرومويل عن عصا الفنّ السحريّة. وهكذا اعتبر ريمون بوانكاري رجال السياسة سحَرَةً عِصِيُّهُم الكلمات!
البعض يسمّي هذا السحر كاريزما والبعض يسمّيه الإيهام والبعض يسمّيه الإحلام. وهل السحر في جوهره إلاّ جعْلُ كلّ شيء ممكنًا حتى تحويل النحاس إلى ذهب؟ وهل السياسة في جوهرها إلاّ جعل كلّ حلم ممكنًا حتى الخبز والحريّة والكرامة الوطنيّة التي يطالب بها الثائرون على الاستبداد؟
السياسة سحر لا علاقة له بالعقل الخرافيّ لأنّها خيمياء هدفها تحويل الأحلام إلى واقع. إنّها تأخذ بشرًا قد يكون أحدهم ذئبًا للآخر على رأي هوبز، فتُكوِّنُ منهم شعبًا وتمنحهم آليّات العيش المشترك عن طريق تأمين شروط إنتاج الثروة والحريّة وشروط توزيعهما بأكثر ما يمكن من العدل.
من هذا المنطلق يتوجّب على كلّ سياسيّ لا عصا سحريّة له أن ينسحب من الساحة. فالعصا السحريّة هنا تتمثّل في مؤسّسات الدولة وقوانينها وآليّات عملها وموظّفيها وعلى رأسهم الحكومة. ومن ثمّ فإنّ الحكومة التي لا تملك عصًا سحريّة من هذا النوع هي حكومة لا لزوم لها. كما أنّ الدولة التي لا تخدم مواطنيها هي عالةٌ على مواطنيها. ثمّ من قال إنّ الدولة ليست بقرة حلوبًا من زاويةٍ مَا وبقدْرٍ مَا؟ لقد عاد الغرب الرأسماليّ نفسه إلى الاعتراف بأنّ على الدولة أن تستعيد جانبًا من دورها الحاضن الذي تفصّت منه باسم التفصّي من دولة الرفاه (Etat-providence).
على الدولة أن تختار: إمّا أن تكون نعمة على مواطنيها وإمّا أن تكون نقمة عليهم. ولماذا يُطعمها المواطنُ من لحمه ودمه وقوت عياله إذا كانت عاجزة عن منحه سطلاً من الحليب؟ إلاّ إذا كان المقصود مختفيًا بين السطور:
المواطن هو البقرة الحلوب! هكذا قد يُفهَم من الإصرار المريب على أنّ الدولة ليست بقرةً حلوبًا. والحكومة لا تملك لهذا المواطن إلاّ العصا العاديّة! هكذا قد يُفهَم من الإصرار المُريب على أنّ الحكومة لا تملك عصًا سحريّة.
ثار المواطن التونسيّ على الاستبداد لأنّه ضاق ذرعًا بأنّ يظلّ بقرة حلوبًا لنظام يرفع عصا الدولة. وهو ينتظر من حُكّامه الجُدد أن يستجيبوا إلى طموحاته لا أن يطلبوا منه العودة إلى المربّع الأوّل بدعوى أنّ الدولة ليست بقرة حلوبًا وأنّهم لا يملكون للمواطنين إلاّ العصا لمن عصى.
لقد رفض المواطن التونسيّ أن يظلّ بقرةً تُحْلَب وثار تعبيرًا عن ذلك الرفض. ومن الخطإ السياسيّ والأخلاقيّ والتاريخيّ الفادح أن يُطلَبَ منه اليوم أن يمسك أيضًا بالمحلب وإلاّ هبطت على ظهره هذه العصا «غير السحريّة».