تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجهة نظر اشتراكيّة حول الأزمة الرأسماليّة (1/6)
على هامش الأزمة الماليّة العالميّة: د. عبد اللّه بنسعد
نشر في الشعب يوم 10 - 01 - 2009

تصدير: «إنّ الامبرياليّة أعلى مرحلة بلغتها الرأسماليّة في تطوّرها ولم تبلغها الاّ في القرن العشرين. والآن تشعر الرأسماليّة بالضيق في اطار الدول القوميّة القديمة التي لولا ظهورها لما كان في وسع الرأسماليّة أن تطيح بالاقطاعيّة.
وقد طوّرت الرأسماليّة التمركز إلى حدّ أن فروعا صناعيّة بكاملها تخضع لسيطرة السنديكات والتروستات واتحادات الرأسماليين من أصحاب الملايين وأنّ الكرة الأرضيّة كلّها تقريبا قد تقاسمها أسياد رأس المال على شكل مستعمرات أو عن طريق ربط البلدان الأخرى بألوف من وشائج الاستغلال المالي.
وحلّ محلّ التجارة الحرّة والمنافسة السعي إلى الاحتكار، إلى الاستيلاء على الأراضي لاستثمار رأس المال فيها والحصول على المواد الأوليّة منها إلخ، وانقلبت الرأسماليّة في مرحلتها الامبرياليّة من محرّرة للأمم، كما كانت في النضال ضدّ الاقطاع، إلى أكبر مضطهد للأمم. وتحوّلت الرأسماليّة من تقدّمية إلى رجعيّة وطوّرت قوى الانتاج إلى حدّ تواجه معه الانسانيّة خيار الانتقال الى الاشتراكيّة أو المعاناة سنوات وحتى عقودا من الصّراع المسلّح بين القوى الكبرى في سبيل الحفاظ المفتعل على الرأسماليّة بواسطة المستعمرات والاحتكارات والامتيازات والاضطهاد القومي بصنوف شتّى».
لينين
1 مقدّمة لابدّ منها
لاشكّ بأنّ كلّ القراءات الموضوعيّة وكلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ الأزمة الرأسماليّة الحاليّة هي أزمة لا سابق لها بأسبابها وأحداثها وتمظهراتها. فهذه الأزمة ليست بحال من الأحوال أزمة ظرفيّة وعابرة بل هي أزمة عميقة وحتما طويلة بمقدار امكانيّة الرأسماليّة نفسها (في عصر العولمة الليبراليّة الشّرسة) على مواجهة تناقضاتها التي لن يكون مخرجها الاّ بنفي نفسها. أمّا ما يجب توضيحه فهو أنّ هذه الأزمة ليست أزمة ماليّة كما يروّج بقدر ماهي أزمة اقتصاديّة ولكنّها أيضا ليست أزمة اقتصاديّة بحتة بقدر ما هي أزمة تشكيلة اجتماعية اقتصاديّة (الرأسماليّة) في حالة احتضار.
فما يعيشه العالم اليوم دليل على أنّ أزمة النظام الرأسمالي هي أزمة بنيويّة مرتبطة بسياسات النظام الرأسمالي وتطوّره التّاريخي. وبالتالي فهي ليست أزمة ناتجة عن سوء تصرّف مدير هذا البنك أو ذاك أو عن خلل في قوانين التنظيم المصرفي في هذه الدولة أو تلك مثلما يروّج له منظرو الرأسماليّة الآن الذين وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه مثل الكذّاب فوكوياما الذي تفتّحت قريحته منذ سنوات عمّا سمّاه «نهاية التاريخ والانسان الأخير» وهو يقصد الانتصار النّهائي للرأسماليّة.
فالتطوّر التاريخي للنظام الرأسمالي وصل إلى مرحلة التمركز الأضخم للرأسمال المالي بيد فئة قليلة، سمّاها لينين معلّم البروليتاريا بالطغمة الماليّة، التي تمسك بين أيديها بالقرار الاقتصادي العالمي عبر توظيف المؤسسات الماليّة العالميّة (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي والمنظمة العالميّة للتجارة) وتتحكم بالقرار السياسي والاجتماعي عبر توظيف الدولة البورجوازيّة وتسيطر أيضا على البنوك المركزيّة والبورصات التي بنيت على قياسها لخدمة مصالحها.
فإذا كانت الأزمات التاريخيّة التي عاشها النظام الرأسمالي (أزمتي 1907 و1929) قد أفرزت الحربين الامبرياليّتين الأولى (1914 1918) والثانية (1938 1945) فإنّه علينا أن نتوقع الأسوأ في مآل وتداعيات هذه الأزمة خاصّة على الطبقة العاملة وعموم الكادحين.
فالحرب (التي تؤدّي دائما وأبدا إلى إفناء العمّال والفلاّحين) لن تكون هذه المرّة بالضّرورة عسكريّة (رغم أنّ احدى افرازات العولمة الليبراليّة الشّرسة هو عسكرة الاقتصاد) وسيكون افناء العمّال والفلاّحين هذه المرّة عبر آليّات أخرى. فرأس المال الذي تهدّده هذه الأزمة بالفناء سيقاوم بكلّ الوسائل، وبإستعمال جهاز الدولة البرجوازيّة خاصّة، عدوّه التاريخي الا وهي الطبقة العاملة. فعلى العمّال أن ينتظروا حربا ضروسا ضدّ تشريعات العمل وضدّ الحقوق المكتسبة وحتّى ضدّ الحريّات وخاصّة حريّة التنظّم (من أجل ضرب الحركة النقابيّة) وحريّة التعبير (من أجل لجم أفواههم حتى لا يصيحوا في وجه الاستغلال) بل عليهم أن ينتظروا أكثر الطرد الجماعي وغلق المؤسسات وخاصّة تدهور مريع في المقدرة الشرائيّة بتجميد الأجور أو حتّى بتخفيضها. فرأس المال ومثلما عوّدنا به يحمّل الأزمة دائما وأبدا للطبقات الكادحة ويعيد بناء ذاته بعرق ودماء العمّال بل على جثثهم.
وقد أكّد آخر تقرير لمنظمة العمل الدوليّة (أكتوبر 2008) أنّ تواصل الأزمة الحاليّة سوف يؤدّي إلى طرد 20 مليون عامل في الأشهر القادمة فقط وإلى افقار مزيد من البشر بإضافة ما لا يقلّ عن 40 مليون من الجياع الى عدد الجياع الأصليين.
وهكذا فضحت «الأزمة الماليّة الحاليّة» البنى الفكرية والايديولوجيّة التي تستند إليها الرأسماليّة والتي تسعى، اعتمادا على حكوماتها، إلى توظيف أموال الدولة لضخّها للبنوك والشركات والمؤسّسات المفلسة للخروج من أزمتها بينما بالمقابل تحاول تحميل الطبقة العاملة كلّ تبعاتها وعواقبها مهما كانت كارثيّة.
لكن لا يمكننا أن نتناسى الجانب الايجابي أو الافرازات الايجابيّة لهذه الأزمة على مستوى التركيبة النفسيّة للعمّال والفلاّحين والمسحوقين في العالم، فبعد انهيار رأسماليّة الدولة الممثلة بكتلة البلدان الشرقيّة (ولا يمثّل ذلك بأيّ حال من الأحوال سقوط الاشتراكيّة كما تروّج لذلك الامبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة الدينيّة) عاش هؤلاء الانكسار والهزيمة وحتى الاحباط خلال حوالي عقدين من الزّمن. فمنهم من انخرط في لعبة العولمة الليبراليّة المتوحشّة دون أي تقييم أو مراجعة ومنهم من انقلب عن الاشتراكيّة وكأنّه يتبرّأ منها (تغيير أسماء الأحزاب الشيوعيّة مثلا) ومنهم من تحالف مع اخوان الظّلام (نتيجة قراءة خاطئة وغير علميّة لطبيعة المجتمع) الذين رأى فيهم المخرج من الأزمة الخ...
لكنّ هؤلاء يكتشفون اليوم أنّهم كانوا يعيشون أكذوبة كبرى تحدّثت عن «نهاية التاريخ» وأنّ سياسات عبوديّة واستغلال الطبقة العاملة وسياسات سلب ونهب الشّعوب والأمم المضطهدة آيلة الى زوال باعتبار أنّ النظام الرأسمالي مهما تطوّرت أشكال وأساليب عمله الاّ أنّه سيظلّ مرحلة عابرة في التاريخ وأنّ نهاية التاريخ لن تكون سوى تلك التي حدّدها ماركس أي الانتصار النّهائي للطبقة العاملة.
لقد أعادت هذه الأزمة الرأسماليّة الحلم بإمكانيّة بناء مجتمع عادل ينتفي فيه استغلال الانسان للإنسان واستعادت الماركسيّة اليوم رونقها وموقعها الحقيقي والطبيعي وأصبح المجتمع الذي صوّره ماركس، والذي يتمتّع فيه الانسان بكلّ حريّاته ويحصل على كلّ حاجيّاته وفق مبدأ الشيّوعية «كلّ انسان حسب حاجته»، قابل للتحقيق.
وقد أكّد معرض فرانكفورت للكتاب الذي انعقد في شهر أكتوبر هذا التوجّّه حيث شهدت كتب انجلس وماركس وخاصّة كتاب «رأس المال» إقبالا لم يسبق له مثيل منذ عقود مثلما صرّح بذلك مدير دار نشر «كارل ديتس» إلى جريدة «غارديان البريطانيّة قائلا «إنّ الشباب يقبلون على اقتناء كتب ماركس بشكل كبير جدّا».
وبما أنّنا نتحدّث عن كارل ماركس فإنّنا نشير الى أنّه استقر تطوّر التاريخ نتيجة التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وهو ما مثّل المدخل الأساسي لفهم التغيير الاجتماعي والانتقال من مرحلة إلى أخرى فقد بيّن ماركس انّ المجتمع البشري ينتقل على امتداد التاريخ الانساني من تشكيلة اجتماعية اقتصادية الى أخرى، فقد مرّ من المشاعية البدائيّة الى نظام الرق الى الاقطاع الى الرأسماليّة وصولا الى الاشتراكيّة فالشيوعيّة والتي ستسود حتما في يوم من الأيام نتيجة التطور الطبيعي للمجتمع. وغني عن التعريف أنّ عملية التطور هذه مرتبطة شديد الارتباط بتطور قوى الانتاج المتمثلة في آلات الانتاج التي تنتج بواسطتها وسائل الحياة المادية والناس الذين يستخدمون هذه الآلات وتجربة الانتاج المكتسبة وعادات العمل الخاصة.
فالمعروف انّه كانت تسود في كل تشكيلة اجتماعية اقتصادية مجموعة من علاقات الانتاج الاجتماعية تتمثّل أساسا في ملكية وسائل الانتاج ووضع مختلف الفئات الاجتماعية في عملية الانتاج تلك. ومن المعروف أيضا انّ علاقات الانتاج هذه تتناسب مع مستوى تطوّر قوى الانتاج داخل اطار تشكيلة اجتماعية اقتصادية محدّدة تاريخيا. غير أنّه يجدر التذكير بأنّ قوى الانتاج دائمة التطور، وبما أنّها كذلك فإنّ التناقض لابد وأن يحصل بين قوى الانتاج الجديدة والقديمة داخل اطار هذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية أو تلك.
فعلاقات الانتاج التي كانت جديدة والتي كانت تلعب دورا أساسيا في تطوّر قوى الانتاج في بداية تشكيلة ما تصبح قديمة مقارنة بقوى الانتاج الجديدة التي تطورت داخل تلك التشكيلة ويحصل بذلك التناقض الذي يتمثّل حلّه في تطور علاقات الانتاج الاجتماعية حتى تبلغ مستوى قوى الانتاج الجديدة كي يحدث الترابط بينهما وبالتالي ولادة علاقات انتاجية جديدة تتناسب مع تلك القوى. لكن ما يجدر تأكيده أنّ هذه العلاقات الانتاجية الاجتماعية وبإعتبارها التعبير الحقيقي عن ملكية وسائل الانتاج تمثّل مصالح الطبقات الاجتماعية المستفيدة من هذه الملكية التي لا تدخر جهدا لتدافع عن نفسها بكل شراسة ويحصل بذلك التصادم بين علاقات الانتاج القديمة وقوى الانتاج الجديدة في شكل صراع بين طبقة/ طبقات اجتماعية ذات المصلحة في الحفاظ على تلك العلاقات وبين طبقة/ طبقات اجتماعية معبرة عن تطور قوى الانتاج وذات المصلحة في تطوير تلك العلاقات.
ويؤكد ماركس ذلك بالقول «إنّ البشر أثناء الانتاج الاجتماعي لمعيشتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معيّنة ضرورية مستقلة عن اراداتهم. وتطابق علاقات الانتاج هذه درجة معيّنة من تطوّر قواهم المنتجة المادية. وعندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معينة في تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الانتاج القائمة أي مع علاقات التملك وليست هذه الاّ التعبير الحقوقي عن تلك التي كانت تتحرّك في كنفها حتى ذلك الحين. فبعد أن كانت هذه العلاقات إشكالا لتطور القوى المنتجة تصبح قيودا لهذه القوى وينفتح عندئذ عهد ثورة اجتماعية». ولن نأتي بجديد اذا قلنا بأنّ التاريخ البشري هو تاريخ صراع الطبقات، صراع بين طبقات مستغلة (بفتح الغين) ومستغلّة (بكسر الغين)، بين طبقات سائدة وطبقات مسودة بإعتبار وأنّ هذا الصراع هو الذي لعب وسيلعب دور المحرك للتاريخ عبر الانتقال من تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى تشكيلة أخرى.
2 تمظهرات أزمة النظام الرأسمالي
وما الأزمة الحاليّة التي لا نريد اختزالها مثلما قلنا سابقا في أزمة ماليّة عالميّة مثلما يروّج له غلاة الرأسماليّة الشّرسة وإنّما نعتبرها أزمة بنيويّة للنظام الرأسمالي بكلّ المقاييس وجب مواجهتها من خلال عولمة النضال والتركيز على الطبقة العاملة وأداتها السياسية القادرة وحدها على هدم السّائد وبناء البديل الاشتراكي الذي يعتمد على تلبية حاجيّات الانسانيّة وليس على الربح كمحرّك أساسي للإقتصاد.
وتتمثّل تمظهرات الأزمة البنيويّة للنظام الرأسمالي في ما يلي:
النمو دون تشغيل:
إحدى الظواهر المهمة التي طبعت الرأسماليّة في ظلّ العولمة الليبراليّة الشّرسة هي ظاهرة غلق المؤسسات وطرد العمال بالجملة حيث تفيد آخر احصائيّات المكتب الدولي للشغل أنّ التشغيل شهد تراجعا بنسبة 20 في مختلف أنحاء العالم وبالمقابل شهدت الأشكال الهشة للتشغيل تطوّرا لم يسبق له مثيل.
تفاقم الفقر في العالم:
تؤكّد أغلب الاحصائيات بأنّ مليار ونصف من البشر يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم. كما أنّ المقدرة الشرائية لعمّال 100 دولة تدهورت بشكل كبير عمّا كانت عليه منذ 15 سنة أي منذ بدايات تطبيق برامج الاصلاح الهيكلي في مناطق شتى من العالم. الفقر طبعا أدّى الى تدهور الظروف الصحية حيث يموت طفل عمره أقل من 5 سنوات كل 3 ثوان نتيجة سوء التغذية بالمقابل يستحوذ 200 ملياردير الأكثر غنى في العالم على ثروة تساوي مداخيل 45 من سكان العالم.
تفاقم المديونية:
مرّت ديون البلدان الفقيرة من 534 مليار دولار سنة 1980 الى 5068 مليار دولار سنة 2006، من ناحية اخرى بلغت خدمة الدين (Service de la dette) معدّل 300 مليار دولار في السنة الواحدة بينما لم تبلغ اعانات التنمية سوى معدّل 50 مليار في السنة وهو ما يعني بأن البلدان الفقيرة هي التي اعانت البلدان الغنية وليس العكس كما تصوّر صناعة الاعلام الامبريالية ذلك.
تتالي الازمات المالية:
نظرا لانحسار دور الدولة واطلاق اليد لحفنة من المضاربين على رأسهم جورج سيروس المجري الامريكي المتصهين، للتلاعب بالبورصات والاستثمارات في مختلف بلدان العالم فقد شهدت فترة التسعينيات عدة ازمات خطيرة: الانهيار المريع لنمور آسيا سنة 1997 (تايوان كوريا، هونغ كونغ وسنغفورة)، ازمة روسيا سنة 1998 ازمة البرازيل والمكسيك سنة 1999، أزمة الارجنتين سنة 2001 اضافة الى الهزة الكبيرة التي شهدتها بورصة وول ستريت سنة 2000 واثرت بصفة مباشرة على مختلف اقتصاديات العالم..
وكانت النتائج المباشرة لهذه الازمات هو إفلاس عشرات الالاف من المؤسسات الصغرى والمتوسطة وفقدان عشرات الملايين من العمال لمواطن شغلهم اضافة الى مزيد رهن تلك البلدان لدى مؤسسات النهب المالي العالمية.
عسكرة الاقتصاد:
ان كل المؤشرات تدل على ان ازمة الامبريالية تشتد من سنة الى اخرى ومهما حاول النظام الرأسمالي التخفيف من أزمته عن طريق الحروب والاضطهاد والاستغلال فإنه لا يقوم الا بتأجيل الانهيار المحتوم لنظام ليبرالي لم تعرف الانسانية اكثر منه شراسة حيث انفلت من تحت عباءة الإطار النظري الذي وضعه المنظرون الأوائل (ادا م سميث ودافيد ريكاردو) وكسّر كل الضوابط وتخلى عن دور الدولة (تنظيرات كينز خاصة) التي عوّضتها الشركات متعددة الجنسيات التي لم يعد لها مقر اجتماع معروف بل اصبحت توجد في عشرات الدول في نفس الوقت.
هذه الشركات اصبحت خارج القوانين التي تسنها الدول اذ حلت منظمة التجارة العالمية محل الدول لسن القوانين المتعلقة بالتبادل التجاري رافعة شعار العبور الى السوق وهو تكريس للعولمة الليبرالية الشرسة والمتوحشّة التي تنصهر فيها وتدافع عنها وهذا يعني فتح اسواق البلدان الفقيرة ليقع غزوها من طرف الشركات متعددة الجنسيات.
فبعد حوالي عقد من وجودها مكّنت هذه المنظمة الشركات متعددة الجنسيات من وضع قبضتها على السوق العالمية حيث ان مداخيل 15 شركة منها تساوي مداخيل 120 دولة مجتمعة واضافة لذلك لم يزد البنك العالمي وصندوق النقد الدولي عن طريق برامج الاصلاح الهيكلي الا في تعميق الازمة فتدهور المقدرة الشرائية للعمال ادى الى التقليص الكبير في الاستهلاك وبالتالي شهد الاقتصاد العالمي وخاصة اقتصاد البلدان الصناعية وعلى رأسها امريكا انتكاسة لم يشهد لها مثيلا طيلة العقود الماضية. وكان الحل في عسكرة الاقتصاد حيث تحاول الامبريالية تعويض الاستهلاك الذي يعتبرالمحرك الاساسي للاقتصاد ببرامج تسليح ضخمة.
وقد نظّر لعسكرة الاقتصاد مجموعة من كبار الاقتصاديين الامريكيين اثناء حرب الفيتنام حيث اكدوا ما يلي: «بالنسبة لانتعاش الاقتصاد لايمكن تصور بديل للحرب لا يوجد بديل اخر في مستوى الفاعلية والحفاظ على مواطن الشغل لدينا وعلى الانتاج والاستهلاك فالحرب كانت وستبقى العنصر الاساسي للحفاظ على توازن المجتمعات العصرية. الحرب والحرب وحدها هي قادرة على حل مشكل فائض الانتاج».
فهل هناك أعمق من هذه الكلمات التي تعبّر عن ضرورة عسكرة الاقتصاد لتحل الامبرياليّة أزمتها؟ وهل هناك كلمات أشدّ وضوحا من هذه الكلمات للتعبير عن أنّ السلم هو عدوّ الامبريالية خلافا لما تدّعيه؟ ألم يقل لينين معلّم البروليتاريا «الامبرياليّة هي الحرب»؟ ولذلك نفهم لماذا تخصّص الامبريالية الأمريكية مبلغ مليار دولار يوميا من ميزانيتها للتسلّح.
التبادل اللامتكافئ
التجارة العالمية هي الآن في خدمة المقاولين في البلدان الصناعية على حساب المنتجين في البلدان الفقيرة وقد قام روني ساندرتو بالتأكيد على أنّ البلدان التي تصدّر المواد الفلاحية مع تسجيل انتاج متناقص تشهد تقلّصا في الأرباح وبالتالي في نسبة النمو، بالمقابل فإنّ البلدان التي تصدّر المواد الصناعية مع الحفاظ على انتاج متصاعد (بحكم التحكم في التكنولوجيا) تشهد تطوّرا في نسبة النموّ. ويؤكد «ساندرتو» بأنّ ما يسمّى بالتبادل الحرّ من خلال اتفاقيات الشراكة لا يعني في الحقيقة سوى التبادل اللامتكافئ.
تدمير البيئة وظهور الأمراض العابرة للحدود:
لقد أدّى انفلات الرأسمالية من تحت عقالها واقدامها على تفكيك هياكل الرقابة والمتابعة وإزالة أغلب الضوابط والقوانين المنظمة للإنتاج والتوزيع والتجارة، عملا بالمقولة الليبيرالية الشهيرة «دعه يعمل دعه يمرّ»، إلى تكالب المستغلّين على تكديس الأرباح وتجميع الثروات بكل الطرق والوسائل دون اكتراث بصحّة الانسان إلى ظهور أمراض خطيرة سمّيناها الأمراض العابرة للحدود أدّت في ما أدّت إلى موت آلاف الأبرياء:
خلط الطّحين الحيواني (Farine animale) الذي يقدّم كعلف للحيوانات بالفواضل المتأتية من محطّات التطهير (الروث، البول...).
جنون البقر
السّارس SARS
أنفلونزا الطيور.
الحمّى القلاعيّة، الخ...
ومايجب ملاحظته هو أنّ أغلب هذه الأمراض هي فيروسيّة وهو ما يجعلنا نعتقد بأنّ تلك الفيروسات وقع صنعها في مخابر الشركات الاحتكاريّة من أجل تحقيق أهداف الامبريالية.
أمّا بالنسبة لتدمير البيئة فحدّث ولا حرج فقد أدّى هذا السعي المحموم والجري وراء الربح الأقصى من طرف الدول الامبريالية والشركات متعدّدة الجنسيات الى حصول اضطراب في المناخ على مستوى العالم لم يسبق له مثيل حيث ارتفع معدّل درجة حرارة الأرض بشكل كبير وظهرت الفيضانات من جهة والحرارة الشديدة من جهة أخرى في غير مناطقها الأصليّة (توفيّ أكثر من 14000 شخص في فرنسا من جرّاء الحرارة خلال صيف 2003 على سبيل الذكر لا الحصر) . فإرتفاع درجة حرارة الأرض سيؤدّي خلال العقود القادمة الى انصهار كلّ شرائح وقطع الجليد في جرينلاند وهو ما سيرفع من مستوى مياه البحر بأمتار عديدة وبالتالي يؤدّي الى اغراق أغلب البلدان الساحليّة في العالم التي ستندثر نهائيّا من على وجه الأرض... وبالتالي فإنّ هذه الحقائق تغني عن كل تعليق وتظهر الوجه الحقيقي للنظام الرأسمالي في هذه المرحلة التاريخيّة.
أمّا أهمّ ما أفرزته الأزمة الرأسماليّة من دروس عرّت النظام الرأسمالي وآلياته ورسّخت بالتالي النقد الماركسي للإقتصاد السياسي للرأسماليّة فهي:
فائدة أولى تتمثّل في تعرية جوهر سياسات المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالميّة للتجارة) التي تركع دول العالم المتخلّفة أمام مشاريعها وبرامجها الهادفة إلى تدمير البنى التحتيّة لاقتصاديّات تلك الدول وتدميرها التدمير الكامل حتّى يسهل مزيد استعمارها واستغلالها ونهبها.
ألم تكن عمليّات الخوصصة وبيع القطاع العام للقطاع الخاص هي الوصفة التي سوّقتها تلك المؤسسات تارة بالجزرة وأخرى بالعصا؟
فائدة ثانية تتمثّل في أنّ عولمة رأس المال المالي كانت من أخطر افرازات العولمة الليبرالية الشّرسة والمتوحّشة وهي التي أدّت وتسبّبت في حصول الأزمة الماليّة الحاليّة. فالطغمة الماليّة المتنفّذة في «وول ستريت» والماسكة بعنق كلّ اقتصاديات العالم تلاعبت بأسعار العملات وأسعار النفط وأسعار الأغذية وأسعار الأدوية وغيرها عبر المضاربة والاحتكار والعمليات المريبة وهو ما أدّى إلى تضخّم عالمي لم يسبق له مثيل.
كما قامت هذه الطغمة التي يقودها الأمريكي من أصل مجري المتصهين «جورج سيروس» بإفلاس الأسواق المالية في آسيا وفي أمريكا اللاتينية في أواخر التسعينيات والأسواق الخليجية خلال سنة 2008 عبر الإسراع في البيع أو القيام بالمضاربات الكبيرة التي تؤدّي إلى زيادة أسعار الأسهم بشكل غير طبيعي وهو ما يؤكد القراءة التي تقول بأنّ الاستثمارات الأجنبية لها دور سياسي أكثر منه اقتصادي تقوم به كلّما دعت الحاجة للضغط على البلدان المتخلّفة ومزيد ابتزازها وربطها بعجلة رأس المال المالي المتوحّش.
كما أثبتت هذه الأزمة أيضا أنّ استثمار رؤوس الأموال العربيّة (المسلوبة والمنهوبة) في البلدان الامبريالية هي عمليّة غير آمنة وغير محسوبة العواقب حيث لا توفّر لهم تلك البلدان أيّ حصانة عند حلول الأزمات.
فائدة ثالثة وأخيرة، وهي الأهم، وتتمثّل في تجسيد أهميّة دور الدولة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. فقد أثبتت هذه الأزمة مدى الخطورة والانعكاسات الكارثيّة التي يمكن أن يؤدّي لها تقليص دور الدولة. ولعلّها مناسبة لحكّام البلدان المتخلّفة لمراجعة سياساتهم اللاوطنيّة واللاشعبيّة المملاة من طرف المؤسسات الماليّة العالميّة بخصوص تفكيك القطاع العام وبيعه للخواص وتقليص ميزانيّة الدولة في الوظيفة العموميّة وفي المجالات الاجتماعيّة الحياتيّة (الصحّة، التعليم، النقل...).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.