قامت رواية «أحباب الله» للكاتب التونسيّ كمال الشارني، كما أوضحنا، على قصة إطارية كبرى تضمّ جملة من القصص الصغرى.
أمّا القصّة الإطاريّة الكبرى فهي قصة الكاتب يكابد محنة السجن وهو لم يزل يافعا هشّا، غير قادر، بعد، على فكّ أبجديّة الحياة والكون أو كما جاء في العنوان، مازال من «أحباب الله» الأبرياء... أمّا القصص الصّغرى فهي تروي محنة عدد من المساجين القابعين في هذا الجحيم الذي يسمّى سجنا، منها قصّة السّجين الذي فقد عقله فعلّق في حزامه ملاعق وأكوابا من البلاستيك ومضى يحدّث مكانا معيّنا من جدار الغرفة...وقصّة السجين الذي مافتئ يضرب رأسه على الجدار..
هذه البنية المرنة هي التي جعلت من الرواية فضاء حرّا،ونصّا مفتوحا يستوعب الكثير من القصص المتخيلة والشهادات الواقعيّة يؤاخي بينها دون تعمّل أو إكراه.. والمتأمّل في هذا النصّ يلحظ أنّ فصوله مراوحة بين مرجعيّة واقعيّة تحاول أن توثّق لمرحلة من تاريخ تونس وترصد كلّ تفاصيلها ..وبين نزعة فنّية تحاول أن ترقى بهذا النصّ، على واقعيّته المفرطة أحيانا،إلى منزلة الرواية، حيث تنسكب التجربة الذاتيّة في فضاء تخييليّ محض . أي إنّ النصّ، كلّ النصّ تتنازعه سلطتان اثنتان كبيرتان : سلطة الواقع وسلطة الأدب ، بعض فصوله يقترب من العمل التسجيلي حيث يريد أن يكون وثيقة تشهد على فترة قاسية من تاريخ تونس، وبعض فصوله يتجاوز هذا البعد التسجيلي ويسعى إلى تحويل الواقع إلى طاقة إبداع وإنشاء، إلى مصدر فنّي وجماليّ....
ويتجلى البعد التسجيلي أقوى ما يتجلّى في وصف التعذيب يمارس على نحو واسع في السجون التونسيّة : تعذيب أعمى، متهوّر، فيه تنكيل واضطهاد وقهر..كلّ أنواع التعذيب مباحة في هذه السجون : التعذيب الجسديّ، والسجن الانفرادي لفترات طويلة، والتجويع ...وأمرّ أصناف التعذيب هو التعذيب الذي كان يسلّطه بعض عتاة المساجين على مساجين آخرين ...أمّا الغاية من هذا التعذيب فلم تكن، كما يقال عادة « كسر إرادة السجناء « لأنّ إرادة هؤلاء كانت قد انكسرت منذ اللحظات الأولى من دخولهم السجن وإنّما الغاية من وراء هذا التعذيب إفراغ السجين من كلّ معانيه الإنسانيّة،إذلاله، تحويله إلى مجرّد وعاء خاو، إلى شبح إنسان..
كلّ هذا دفع الكاتب/الراوي إلى الإقبال على الكتابة بوصفها الطريقة المثلى لإعادة تشكيل المعنى، معنى الكائن، ومعنى العالم من حوله.. فالشارني قد اكتشف أنّ السجن يهدم ويقوّض بينما الكتابة تبني وتشيّد، كما اكتشف أنّ السجن يشتّت ويفرّق فيما الكتابة تلملم وتجمع ...وفوق هذا اكتشف أنّ السجن يلغي الذاكرة ويدمّرها بينما الكتابة تستحضرها وتسترجعها...أي إنّ الكتابة تحوّلت، في هذا السياق، إلى أداة لمقاومة الموت، لمقاومة رعب الواقع، لمقاومة الشرّ الذي استشرى في كلّ مكان .»كتبتُ أساسا لكي لا ننسى « هكذا قال كمال الشارني في عتبة أولى من عتبات النصّ جاءت في هيئة مقدّمة ...مذكّرا بمغامرة الكتابة في سجن حظرت فيه القراءة والكتابة..
فبعض فصول الرواية كتب سرّا في غفلة من الحرّاس على أوراق مدرسيّة أجبر الكاتب، على إثر دوريّة حراسة، على تمزّيقها إلى أربع قصد إخفائها..وبعض الفصول الأخرى حجزه الحرّاس، وعاقبوا الكاتب على إقدامه على كتابته بالسجن الانفرادي..يقول الكاتب مستدركا: « لكنّي تعلّمت كيف أعيد كتابة تلك المذكّرات معتمدا على غريزة الحفظ التي يطورها السجين لإبقاء ذكريات ما قبل السجن حيّة لكي يحافظ على حبّ الحياة...كما اعتمدت على المواهب الجماعية للمساجين في ابتكار طرق لا يتوقّعها السجّان للحصول على الورق والأقلام والاستمرار في الكتابة..» والاستمرار في الكتابة يرادف الاستمرار في الحياة والاستمرار في المقاومة..كثيرة هي الفصول التي صوّرت إقبال الرّاوي على الكتابة هروبا من العزلة والصمت والبرد..فالكتابة هي التي كانت تسعفه بالأصوات حيث لا أصوات وبالوجوه حيث لا وجوه وبالأضواء حيث لا أضواء...كانت الكتابة كوّة مفتوحة على الداخل والخارج على القريب والبعيد على السماء والأرض...فبالكتابة كان يستحضر،كما جاء في أحد الفصول، ألوان الحجارة وأشكالها أمام منزل أمّه..دالية العنب التي تخضرّ في حرّ كلّ صيف...أغصان الياسمين تزهر مرّتين في السنة ..بعبارة واحدة كانت الكتابة وطن الكاتب بعد أن أطرد من وطنه وسكن السجن.
إذا استعرنا عبارات رولان بارت نقول: إنّ هذه الرواية ظلّت على امتداد فصولها، تخبر عن نفسها فيما تخبر عن العالم الصادرة عنه ،وتحيل على ذاتها فيما تحيل على الواقع المتحدّرة منه ...ناهضة بذلك ، بوظيفة مزدوجة: وظيفة الإشارة إلى ما هو خارجها، ووظيفة الإشارة إلى نفسها جامعة بين الإبداع والتأمّل في الإبداع جمع تلاؤم وانسجام...