لن نجانب الصواب, إن قلنا إن «العراق» يقترف كبائر الأخطاء السياسية والاستراتيجية إن اعتبر أن قمة بغداد سترجعه دولة ودورا إلى الواجهة السياسية في العالم العربي, فلا القمم العربية خاصة بعد قمة الخرطوم 1967
بمقدورها إرجاع الأدوار الى من سلبت منه أو نزع الدور السياسي والريادي من الفاعلين الحقيقيين في المشهد العربي والإقليمي.. ولا الاستحقاقات السياسية المنوطة بعهدة الجامعة العربية بإمكانها أن ترفع من قيمة دولة أو أن تحط من نفوذ أخرى.
الشاهد هنا أن العراق إن ابتغى طبعا بعد التحرير الحقيقي وبعد الانسحاب الكامل للقوات الغازية الرجوع إلى الحاضنة العربية وإلى لعب الدور السابق فهذا يعود إلى مقدراته الداخلية ونعني بها : تجاوز التقسيم الفيدرالي القائم نحو وحدة حقيقية داخل الفضاء العربي + بناء جيش حقيقي ذي عقيدة قتالية متناقضة عضوية مع الإمبريالية والصهيونية وأتباعها + إعادة ترتيب العلاقات مع إيران وتوجيهها نحو التعاون وليس التبعية كما هو جار حاليا .
عبر هذه المقدرات يبنى العراق ويرجع العراق كما كان وليس من خلال قمة أو جامعة عربية عاجزة عن تسوية مشاكل الدول الأعضاء تحت مظلتها وتقبل أن تكون أداة طيعة في يد «منتظم خليجي» يسيطر على اهتماماتها ويبني أولوياتها...
لذا فإن تمثل الجامعة العربية كبوابة وقاطرة لاسترجاع الدور أو للنهوض مجددا .. تمثل مخطئ للغاية .. ليس فقط لأن الجامعة العربية لم تعد جامعة ولا عربية ولكن لأنها وهذا هو الخطير قبلت أن تبقى هيكلا مطواعا لدى من يملك القوة والنفوذ المتجسدين في ( المال + الإعلام + النفط + التحالف الاستراتيجي مع واشنطن ) .. فلا هي انتفضت على حالها وغيرت قواعد عملها ..ولا هي استكانت لمصير الفناء والنهاية ..
وفق هذا الحال نفهم أدوارها المحتشمة في العراق وفلسطين ولبنان ..ووفق هذا التشخيص ندرك «تآمرها» العلني على سوريا وعلى ليبيا .. ووفق هذه المقدمة, ندرك الآليات التي حولت قمة بغداد 2012 إلى حلف بغداد 2 ..
لا نقصد بالحلف ذلك التكتل السياسي القائم بين عدة دول لتحقيق بعض الأغراض وإنما نقصد به تلك الخطوط السياسية والاستراتيجية العريضة التي تبنتها القمة وحولتها إلى ورقة عمل طيلة أشغالها.. وهي خطوط لا تختلف كثيرا عن مجموع الأفكار والأهداف التي بني على أساسها حلف بغداد عام 1955 والمتمثلة في حسر المد الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط ومقتضاه الحيلولة دون تمدد غير أمريكي صهيوني في المنطقة ومحاصرة مصر البوابة العربية لإفريقيا وسوريا البوابة العربية لآسيا ومقتضاه منع الوحدة العربية..
وبالتالي تقويض أو إضعاف أي نوع من أنواع المواجهة مع إسرائيل.
القارئ المتمعن في مقررات «قمة بغداد» يرى أنها تتحرك في 4 محاور كبرى وهي :
الإصرار على أن الحل في سوريا يتم قصرا عبر الورقة القطرية والداعية إلى تفويض الأسد صلاحياته لنائبه ... وهو إسقاط وإلزام على الشعب السوري وليس قرارا من داخل ذات الشعب يريد – أي القرار – إسقاط آخر نظام مواجهة عربي . التشديد على أن تكون منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي وهو أمر موجّه الى إيران وليس الى إسرائيل باعتبار أن الأولى في طور التقدم التقني نحو امتلاك الخبرة النووية والثانية حازتها وانتهى الأمر . عدم التطرق لا من قريب ولا من بعيد للشأن البحريني – ناهيك عن الشأن السعودي – والحراك الشعبي المستمر منذ أكثر من عام والذي يزداد زخما مع استمرار التغاضي والمجافاة العربية والقمع الخليجي. الإشادة بصيرورة الانتقال الديمقراطي في تونس وغيرها من البلدان العربية دون مطالبة الدول العربية التي تؤوي «الاستبداديين» وأقاربهم وتضمن لهم الحماية والرعاية بتسليمهم طالما أن لبنات الانتقال الديمقراطي في طور البناء والتشييد .
وفق هذه المحاور الأربعة , ترسم «قمة حلف بغداد» معايير جديدة في تعامل المنتظم العربي مع المستجدات العربية وتنحت محددات حديثة لمفاهيم القرب والبعد داخل الفضاء العربي ..
والمعايير أو المحددات تتشكل في ثلاثة أطر كبرى وهي :
إبرام علاقة عضوية بين الجامعة العربية ومجلس الأمن بطريقة يصبح المعطيان «العربي والتدويلي» وجهين لعملة واحدة .. فالجامعة العربية تمهد الطريق نحو مجلس الأمن والأخير يكمل مهمتها . ازدواجية مقيتة في التعامل مع معطى حقوق الإنسان في الدول العربية وفق ما تمليه رغبات الدول المسيطرة على الجامعة العربية ووفق ما يتماشى مع رغبة واشنطن. ومثال ذلك أن حقوق الإنسان في سوريا ملف أهم واوكد من حقوق الإنسان في البحرين أو السعودية أو حتى في فلسطينالمحتلة . وكنتيجة للفكرة الثانية تصبح الولاياتالمتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الإمبريالية أكثر قربا من روسيا التي لم تحتل يوما دولة عربية ولم تتلطخ يدها بالدماء العربية .
تخطئ «بغداد المحتلة» كثيرا لو رسمت مستقبلها السياسي عبر مقايضة ملف ساخن بآخر أكثر أو اقل سخونة .. المشهد السياسي في العالم العربي واضح جدا ,,والتباينات والاختلافات والرهانات والنهايات باتت جد جلية وواضحة, وما على العراق سوى أن يختار بين هذا الفريق أو ذاك.. فلا مجال اليوم لأنصاف المواقف ولأنصاف الاتجاهات والمقاربات..
علّق البعض على غياب الوفد السوري بأنه حضور بالغياب .. باعتبار أن كل الاهتمام العربي انصب في أيام الأرض العربية على سوريا .. هكذا قال أحد الديبلوماسيين العرب متجاهلا أو متغاضيا عن حقيقة أن سوريا كانت حاضرة بالحضور .. بعد أن أجبرت كل الداعين إلى تسليح المعارضة السورية المسلحة والشعب السوري على ابتلاع ألسنتهم والاختفاء وراء دعوات تأمين الانتقال الديمقراطي عبر الحوار الوطني الشامل في البلاد.. سوريا كانت حاضرة في بغداد عبر إجبار الحاضرين على معارضة التسليح القائم أصلا ومناوأة التدخل الخارجي القائم أصلا ..ومجابهة التحريض الإعلامي القائم أصلا ...
قدر سوريا أن تفضح المتآمرين عليها .. وأن تكشف عوراتهم أمامهم .. فتراهم ينهون عن أفعال يجترحونها سرا ويدعون إلى أعمال يأتون بعكسها .. مثل سابقه .. سيسقط حلف بغداد الجديد ..وستسقط أيضا كل مشاريع العمالة في وطننا العربي .. ولكن «العمالة» باتت سجية عند البعض من أبناء جلدتنا وتلك ... مصيبة كبرى .. وطامة عظمى ..