قد لا نجانب الصواب إذا قلنا أنّ هناك «أزمة تواصل» بين الأجيال الجديدة من رجال السياسة في بلادنا ومختلف الفئات الاجتماعيّة التي تخاطبها .وهذه الأزمة لا ترتدّ، في نظري،
إلى المواقف والأفكار والبرامج التي يدعو إليها هؤلاء الساسة بقدر ما ترتدّ إلى طرق عرض تلك المواقف والأفكار والبرامج...فهذه الأجيال لم تقتنع بعد أنّ السياسة، هي في وجه من وجوهها، لعبة لغويّة تتوسّل بالكلمات لإقناع السامعين وإيقاع التصديق في نفوسهم...
قد يعترض علينا معترض فيقول لقد انتهى عصر الساسة/الخطباء المخصوصين بالفصاحة وقوّة الحجّة من أمثال الثعالبي وبورقيبة وعبد الناصر الذين إذا خطبوا استحوذوا على عقول السامعين وقلوبهم في آن واحد..فالسياسة اليوم لا تقوم على الخطب تلقى من فوق المنابر فتبعث الحماسة في النفوس وإنّما تقوم على البرامج يقدّمها كلّ طرف فتتكلّم بدلا عنه وتقنع دون تدخل منه. وإذا أراد السياسيّ مخاطبة جمهوره توسّل بالتلفزيون وحيله الكثيرة من تركيب وتقطيع لتلافي كلّ تقصير ..والظهور بمظهر الخطيب «المفوّه» على حدّ العبارة التي كان يستخدمها البلاغيون القدماء كلّما وصفوا خطيبا فصيحا.
لكنّنا نستطيع أن نستدرك على هذا الكلام فنقول إنّ «فنّ الخطابة» بوصفه أداة السياسيّ في الإقناع والتأثير لم يفقد في عصر الصورة سطوته وقوّته بل ظلّ أمضى سلاح يمتلكه السياسيّ ليستجيش الأنصار ويفحم الخصوم على حدّ عبارة ابن خلدون الأثيرة .وحسبنا أن نستحضر هنا صورة الحملات الانتخابيّة في البلدان الديمقراطيّة حتّى نقف على المنزلة التي تحظى بها الخطابة في المشهد السياسيّ الحديث...فالسياسيّ مازال يقف وسط جمهوره يخاطبه مرتجلا، محدّقا في عينيه، ساعيا إلى استدراجه والتأثير فيه...وتبرز موهبة الساسة أقوى ما تبرز في المناظرات التي تنعقد بينهم على مرأى ومسمع من الجمهور...حيث يستخدم كلّ طرف مواهبه في الحجاج والإقناع من أجل الإزراء بالخصم والانتصار عليه...فالصّراع، في مثل هذه المناظرات ليس صراعا بين البرامج والمواقف كما يتبدّى لأوّل وهلة وإنّما هو صراع بين طرق في الإقناع مختلفة وأساليب في استمالة الجمهور متباينة...فليس الغرض من هذه المناظرات الكشف عن الحقيقة (وما ابعد السياسة عن الحقيقة) وإنّما، إذا استخدمنا لغة البلاغيين، إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحلّ القبول لتتأثر بمقتضاه...
لقد اقترن البيان، منذ أقدم العصور بالسحر، وإذا علمنا أنّ السحر عند العرب هو «أن ينخدع الإنسان فيندفع إلى فعل من الأفعال من غير رويّة من عقله» أدركنا العلاقة القائمة بين سلطان اللغة وسلطان السحر...فكلاهما مصدر من مصادر الفتنة وكلاهما «يخادع من يتلقّاه ويستدرجه»...وقد أبرز الفلاسفة منذ أقدم العصور أنّ فنّ مخاطبة الجماهير لا يسعى إلى تحسين الحسن وتقبيح القبيح..وإنّما مداره : تحسين ما ليس بحسن وتصحيح ما ليس بصحيح بضرب من الاحتيال». وبما أنّ الأجيال الجديدة لا تملك ناصية فنّ استخدام اللغة فإنها لا تملك القدرة على سحر السامعين وشدّ انتباههم.
والمتابع لخطاب هذا الأجيال الجديدة من الساسة يلحظ أنّه(أعني الخطاب) يتّصف بصفتين اثنتين أولاهما أنّه خطاب متشنّج، فيه حماسة مفرطة ، واعتداد لا ينهض له سبب يسوّغه..هذا الخطاب لا يحاور سامعه بتواضع وإنّما يوجّهه، وربّما يعلّمه...أمّا الصفة الثانية فهي انتماؤه الإيديولوجيّ الواضح..لكنّ الإيديولوجيا هنا لا ترسب في أعماق الخطاب ولا تذوب في تضاعيفه وإنّما تطفو على سطحه وتلوّن كلّ مفرداته...نحن نقرّ أنّه لا يوجد خطاب بريء، فكلّ خطاب ينطوي على موقف إيديولوجي وإن ادّعى صاحبه عكس ذلك...لكنّ في السياسة ينبغي الاحتيال على اللغة حتّى يظلّ الخطاب، في الظاهر على الأقلّ، خطابا محايدا، عقلانيّا، لا يخاطب فئة بعينها وإنّما يخاطب كلّ الفئات...فمن خصائص السياسيّ أنّه يتقدّم دائما في هيئة الأب الذي يريد أن يجمع ويوحّد لا أن يفرّق ويشتّت...ومثل كلّ أب ، نجده يدّعي ، في الظاهر على الأقلّ، أنّه محايد فلا يفاضل بين مختلف الأطراف...
قد نشكك في جدوى «استراتيجية التواصل» التي تستخدمها هذه الأجيال الجديدة من رجال السياسة في بلادنا ..وقد نؤاخذها على بعض أساليبها في مخاطبة الجمهور...لكن لا يمكن أن نشكّك في النوايا الطيّبة التي تحملها ...ولكن متى كانت النوايا الطيّبة وحدها كافية لقيادة الشعوب؟...