على رفوف المكتبات الجامعية التونسية ترقد المئات من النتاجات الفكرية والبحثية في شتى الاختصاصات، كان من الممكن لو تم تعهدها بالمراجعة والدعم ان تتحول الى اسهامات علمية تؤثث مكتباتنا المقروءة وتساهم في خلق حراك فكري وثقافي، يحرّر هذه الرسائل البحثية من نخبوية الأكاديمية ومن ترف التداول المحدود داخل أروقة الجامعات. غير ان مشقّة الطبع وقلّة الحيلة لدى الباحثين الشبان وغياب تقاليد النشر والتوزيع في سوقنا الثقافية المحلية لم يمنع عديد الباحثين من تجشّم عناء التجربة، رغبة منهم في تعزيز المدوّنة الثقافية الوطنية، واعتاق مجهوداتهم الفكرية البحثية من أسر العقل الاكاديمي المخبري والدخول بها معترك الجدل الفكري والثقافي. الباحثة هادية السالمي الاستاذة في اللغة العربية والمتحصلة على شهادة الماجسيتر في الحضارة بملاحظة حسن جدا، والعضوة بوحدة البحث التأويلية بكلية الآداب بصفاقس، لها عدة اسهامات في مجال البحوث والدراسات الحضارية، بالاضافة لمجموعة من المقالات في الأدب والحضارة نشرت لها بعدة جرائد ومجلات عربية، مثل مقالها في جريدة الايام البحرينية »ملاحظات على سبيل التقديم لشعر جاسم الحاجي« كما نشر للباحثة مقالان في مجلة القلم » حق الاختلاف«، و »التشاكل الدلالي في سور القرآن (سورة يوسف نموذجا)«، غير ان اهم اصداراتها يظل كتابها » ظاهرة حجاجية وبيانية« الصادر عن مطبعة التسفير الفني (I.R.A)، في طبعته الاولى بتاريخ افريل 2008. متن الكتاب الكتاب في الأصل رسالة ماجستير، إنجزتها الباحثة »بكثير من الجدّ والصبر« على حدّ تعبير استاذها المشرف: محمود المصفار، سبرت خلالها النصّ القرآني قصد معالجة أربعة مظاهر فيه ترتبط ببعضها ارتباطا عضويا، وهي على التوالي الحوار والحجاج والبيان والحوارية، مبوّبة في قسمين متوازيين أولهما نظري والثاني اجرائي. فأما الأول فاهتمت فيه الباحثة بتحديد المفاهيم وبيان دلالتها اللغوية والاصطلاحية والاجرائية، وقد خلصت فيه الى نتيجة مفادها »إذا كان الحوار أسلوبا في الخطاب اللغوي فإن الحوارية فوق كونها أسلوبا في الخطاب، رؤية للحياة والكون... وهذه الحوارية، ولئن كانت تتوسل بالحوار، فهي ليست اياه، ولا تقصر عليه لانها ترى الحياة في التنوّع والاختلاف وتعدّد الاصوات واللغات«. أما القسم الثاني فأبرزت الباحثة في بابه الاول وظائف الحوار من حيث هو دعوة أوّلا، ومن حيث هو منهج ثانيا، كما أبرزت آليات المحاورة التي جمعتها في ست اساسية هي: »الحرية، والمناقشة الفكرية، والبعد عن الانفعال، والتسليم بالصواب، والالتزام بالمنطق، والهدوء في اعلان النتائج« كما تعرضت ثالثا الى الحوار من حيث هو وظيفة، فبيّنت ان الحوار القرآني يستهدف التشخيص والاستبطان ولا سيما الاخبار التي جاءت تمثل خمس القرآن انطلاقا من مبدإ الخلق ووصولا الى مشاهد الحساب، وتناولت رابعا للحوار من حيث هو تنوع يبرز في الحوار المسرحي وما يقوم عليه من تعدّد في الضمائر.. تدل على السلطة اكثر مما هي تدل على شخص معيّن، اضافة الى الحوار السردي القائم على الاحداث وتصويرها في مخاطبة الانسان العربي والاستجابة لمخياله العام. أما في الباب الثاني من القسم الاول فقد بيّنت الباحثة أنواع الحجج التي جاءت في القرآن، محددة مصادرها الاساسية، فعدتها اما منطقية قائمة على القياس والمقارنة، وإمّا تجريبية قائمة على الوقائع والاحداث، واما استقرائية قائمة على نموذج المؤمن والكافر. ثم تناولت الباحثة الحوارية في القرآن الذي يخرج عن دائرة الاجناس شأن الروائع الخالدة وبيّنت علائقه بالشعر والترسل والقصّ والمسرح والمناظرة للدلالة على تعدده وتناصه من داخل القرآن ومن خارجه في آن، ولعل هذا التنوّع هو ما أكسب النص القرآني مرونة في التطبيق على اي عصر من العصور، لأنه لا يخاطب الراهن النسبي، بقدر ما يخاطب التاريخي الكلّي، ولكن بنظرة تسامحية لا تقصي المختلف، ولا تستبعد المتعدّد. »مع كل تلاوة يستعيد القرآن حياته« لقد تعددت محاولات قراءة النص القرآني في ظلّ المناهج الحديثة بتعدّد أدوات التفكيك والتحليل، وما قراءة الباحثة سوى محاولة للتوسل بالدراسات اللسانية الحديثة وآلياتها وخاصة ما استند منها على الحوار والحوارية، تدفعها في ذلك اسباب ذاتية وموضوعية، فأما الذاتية فتعود الى رغبتها في دراسة القرآن سعيا وراء أجوبة عن أسئلة لطالما عبرت ذهن الباحثة واستبدت به اثناء التعبّد والتلاوة، وهي المسلحة بمباحث البلاغة من استعارة وتشبيه التي قدحت زناد حيرتها. أما الاسباب الموضوعية فتعود الى ما استجد من ظروف تاريخية حولت العالم الى قرية من خلال جملة الوسائط الالكترونية التي هزمت الفواصل الجغرافية وأحوجت البشرية الى طرح قضية الحوار، لصلتها بالوجود الانساني في ظل استحالة أي إمكان لوجود خاص ومغلق. ومع هذه التحولات الكونية المتسارعة كان على الباحثة ان تنبش وتنقرّ في النص القرآني عنوان هويتنا الجامعة للبحث عن الحقيقة التواصلية للغة القرآن وانقتاحها على المنجز البشري، في محاولة لمدّ جسور بين لغة العصر ولغة الوحي، قطعا مع حالة الخوف على القرآن من منتجات العقل الحديث التي تحول دون ادراك طاقاته الكامنة والخوف منه على حداثة تنكرت لأهم مبادئها. ان أهم ما خلصت إليه الباحثة من نتائج يتمثل في ان القرآن لم يكن نصا منغلقا بل كان للآخر حضوره الضروري فيه، ومثلت الممارسة الحوارية فيه أحد أدواته في التواصل مع الآخر، ليثبت في النهاية انه نص حجاجي رافض للانغلاق، قاطع مع سبل الضغط والإكراه، ولكنه في ذات الوقت نص معجز ومتعال عن الظرفي صالح لكل زمان ومكان. بين التأكيد على مبدأ المغايرة وإعلاء قيمة الآخرية يتموضع كتاب الباحثة هادية السالمي رغبة منها في تجذير قيم التواصل وإعلاء روح التسامح بين البشر. وعلى أرضية أنتروبولوجية ترى في القرآن نصا يحاور نصوص الثقافة الأخرى ويتسع لنصوص الآخر والمغاير الثقافي، يقف هذا المبحث العلمي الهام دليل أصالة وتميّز.