في المدة الاخيرة تركز اهتمام التونسيين والمراقبة الاقتصادية وهياكل الدفاع عن المستهلك على التهاب أسعار الخضر والغلال واللحوم والبيض (أي المواد الطازجة) لكنهم غفلوا جميعا عن الزيادات المتكررة في اسعار المواد الاستهلاكية المُصنعة. والملاحظ أن الزيادات هذه تتم منذ اكثر من عام (بعد الثورة) بشكل يومي وتشمل أكثر من مادة مُصنعة على غرار المعلبات و المصبرات الغذائية وغيرها من المواد الاستهلاكية الاخرى وعادة ما لا يتفطن لها المواطن لأن مبلغ الزيادة يكون بمليمات معدودات. لكن وقعها على الميزانية العائلية يكون كبيرا بما أن الزيادة في سعر المنتوج نفسه تتكرر أكثر من مرة خلال شهرين أو ثلاثة وبما ان المواد المعنية مطلوبة بكثرة من المستهلك و بشكل يومي كمشتقات الحليب بأنواعها (الزبدة الجبن الياغورت..) والزيوت النباتية وبعض أصناف القهوة والبُن والحلويات والبسكويت والعصائر والمشروبات الغازية والورق الصحي و الشامبو ومواد الغسيل والتنظيف الخ ..وهي مواد ضرورية للمعيشة اليومية للتونسي. وحسب خبراء في المجال فان المصانع لها الحرية الكاملة في تحديد أسعار منتوجاتها (87 بالمائة من الاسعار حرة في تونس) وبالتالي فهي التي ترفع في أسعار البيع على مستوى الانتاج وتضع في كل مرة تجار الجملة والتفصيل والفضاءات التجارية الكبرى امام الأمر الواقع حتى يبيعوا السلعة للمواطن بالسعر الجديد. أي ان المتسبب في الترفيعات المتتالية والمتكررة في اسعار هذه المواد هم أصحاب المصانع أنفسهم. وأكثر من ذلك حسب ملاحظين فان المصانع الكبرى والماركات المعروفة عادة ما تتفق في ما بينها لتحديد الاسعار ولترفيعها حتى لا تترك اي مجال للمنافسة النزيهة والشريفة وتضع المستهلك أمام حتمية الشراء بتلك الاسعار. هذا الواقع المرير (ارتفاع الاسعار) الذي أصبح يعيشه التونسي بشكل يومي يطرح اكثر من سؤال حول الأسباب التي تدفع بعدد من أصحاب المصانع إلى «الجشع» المستمر على مدار أشهر العام وعدم الاكتفاء بتحقيق مرابيح معقولة. فعدد كبير من أصحاب هذه المصانع (رجال اعمال) مَدينون اليوم للشعب بعد ان ازاح عنهم (بفضل الثورة) الظلم والقهر والابتزاز الذي كان مسلطا عليهم من النظام السابق ومن عائلة واصهار المخلوع.. وكان عليهم أن يكونوا اول المعترفين له بالجميل عبر حماية مقدرته الشرائية وضمان العيش الكريم له بتكاليف معقولة وعادية. غير أن بعضهم تصرفوا عكس ذلك، ف«انتقموا» من الشعب طيلة اكثر من عام عوض مكافأته، ونغصوا عليه معيشته بأسعارهم النابعة عن جشع لا متناهي وعن رغبة قصوى في «العشاء بالدنيا والسحور بالآخرة».. وامتصوا دماءه بكل الطرق مستغلين حاجته اليومية لشراء المواد الاستهلاكية ومستغلين ضعف السلطة ومستغلين أيضا مبدا حرية الأسعار والمنافسة الذي تحول في نظرهم إلى حرية الجشع و«الاستكراش». من حق رأس المال استرجاع ما أنفقه من استثمارات ومن حقه تحقيق المرابيح اللازمة ليواصل نشاطه، لكن ليس من حقه امتصاص الدماء ...من حقه التصرف بكل حرية في تحديد الاسعار لكن ليس من حقه أن يكدس الثروات مستندا إلى ظهور(جمع ظَهر) أبناء وطنه خصوصا ضعاف الحال فقسمها ...ضعيف الحال لا يجد أحيانا ما يُطعم به عائلته و ابنائه، وفي الوقت نفسه تتمرغ بعض رؤوس الاموال الجشعة في أموال لا تعرف بدايتها من نهايتها، حققتها للأسف الشديد بالترفيع المتتالي في أسعار منتوجاتها. ويرى خبراء السوق ان هذا التوجه من أصحاب المصانع نحو الترفيع باستمرار في الاسعار حتى يحققوا أكثر ما يمكن من أرباح قد يعود عليهم سلبا . فالدورة الاقتصادية برمتها قد تتعطل بسبب تراجع الاستهلاك العائلي والمستهلك لن يحتمل بكل تاكيد ما يحصل وسيقلص من نفقاته وقد يبلغ به الامر حد مقاطعة بعض المنتوجات نهائيا.