تبدو الأمور في هذا اليوم وكأنّها صدى ليوم مضى منذ 74 عاما. مازال من الممكن القول إنّ التونسيّين الذين خرجوا مطالبين ببرلمان تونسيّ وحكومة وطنية يوم 9 أفريل 1938،
وسقطوا برصاص البوليس الفرنسيّ لم يهنؤوا في قبور الشهادة التي استراحوا فيها منذ ذلك الوقت، وأحفادهم من أبناء الوطن تحت سياط البوليس «الوطنيّ»، وأنفاسهم تحتبس بفعل غازاته المسيلة للدموع والأرواح.
منذ الصباح توافدت التونسيّات والتونسيّون إلى شارع محمّد الخامس وشارع الحبيب بورقيبة لإحياء ذكرى الشهداء. على أنّ وزارة الداخليّة بدت مصرّة على منع التظاهر في الشارع الكبير، فيما يقول المتظاهرون إنّ شارع بورقيبة ملك عموميّ للشعب التونسيّ، وله رمزيّة خاصّة ليس لقرار وزاريّ مهما تكن مبرّراته أن يحول بين التونسيّين وبينه. وإذن، فقد واجهت قوّات الداخليّة المتظاهرين والمارّة بقدر لا يستهان به من العنف والقمع شاركت فيه القوات النظاميّة مدعومة – وهذا هو الخطير – بميليشيات مشبوهة بعضها راجل وبعضها على دراجات ناريّة تجوب الأنهج والأزقّة لتفريق المتظاهرين أو لتأليب الغوغاء على شخصيّة من الشخصيّات السياسيّة أو الحقوقيّة أو الثقافيّة.
ومن المحزن والعار حقّا أن يؤلّب هؤلاء المنحرفون التائبون والوشاة السابقون العائدون إلى «الخدمة» من جديد – أن يؤلّبوا الغوغاء الجاهزين لملاحقة مناضلي الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، وسائر الحقوقيّين والسياسيّين والمثقفين والإعلاميّين، وهم يصيحون: يا تجمّعي.. يا أيتام بن عليّ !!.
عار حقيقيّ أن ينسحب البوليس في أوقات معلومة، وتتكفّل الميليشيّات المشبوهة بتأديب أحد المتظاهرين ليناله ما طاب من إهانات واعتداءات بالصفع والركل. يوم 9 أفريل 2012 يوم له نظير في الماضي البعيد، أهدتنا فيه الحكومة «الشرعيّة» و«المنتخبة» قطعة من العذاب منتهية الصلاحيّة. وما كنّا نتصوّر أن تبلغ العنجهيّة والجحود لتعيد إلى أذهاننا ذكريات سيّئة جاهدنا في نسيانها، ورغبنا في القطع معها.
وما كنّا نتصوّر أنّ مناضلين أنفقوا أعمارهم في مقارعة الاستبداد والدفاع عن حقوق أبناء الشعب بمن فيهم سجناء «الإسلاميّين» يلقاهم بوليس الحكومة الثوريّة وميليشياتها بالضرب والصفع والإهانة والتنكيل.
إزاء مواطنين يتظاهرون سلميّا، ويحتفلون على طريقتهم بعيد الشهداء، ضربت قوات البوليس في الشارع الكبير وفي الأنهج والأزقّة الفرعيّة بل وطاردت المتظاهرين والمارّة حتّى باب الخضراء وساحة الجمهوريّة وشارع محمّد الخامس. وهذا ما لم تفعله «داخليّة» نظام بن علي. ولم تعف الاعتداءات الوحشيّة متظاهرة أو متظاهرا ولا حتّى المارّة من نساء وشيوخ وأطفال كانوا يعبرون المكان في الوقت الخطإ. ووزّعت على الجميع بعدالة قلّ نظيرها، يمينا وشمالا، هراواتها وغازاتها وأقدام أعوانها وقبضات أيديهم. ولم ينج من هذه الهبّة المريبة صحافيّون يقومون بواجبهم المهنيّ، حتّى دعا أحدهم وكان بزيّ مدنيّ بصوت عال: ينبغي إخلاء شارع بورقيبة من الجميع، ومن شاء أن يقرأ الفاتحة على الشهداء فليلتحق بالحكومة في السيجومي !
يوم 9 أفريل 2012، في الحاضرة التونسيّة المحروسة مدينة تغرق في ضباب كثيف من الغازات المسيلة للدموع، ومواطنون يفترشون الإسفلت تحت أرجل المارّة الهاربين في كلّ حدب وصوب.. كلّ من وُجِد في ذلك المكان، وفي ذلك التوقيت بالذات، ناله يوم مختلس من أيّام عاشها قبل 14 جانفي، يوم زيد عليه شيء أخطر هو هذه الميليشيات من ذوي الهراوات والألسنة السليطة يشتمون الناس ويلعنون أمّهاتهم !
كذلك هي بوادر الفاشيّة. فاشيّة لها رصيدها البلاغي كالشرعيّة والصناديق والأغلبيّة والرأي العامّ والنضاليّة. حين يجتمع قوم على «ضلالة»، ويكون السمع والطاعة للحزب والحركة من أجل الاعتداء على المختلف بتخوينه وطنيا وتكفيره دينيّا – نكون، حينها، إزاء الفاشيّة باعتبارها ظاهرة قابلة للتكرار بأشكال مختلفة سواء منها الإيديولوجيّة الدوغمائيّة أو الدينيّة المغلقة.
مرتزقة مأجورون تحت الطلب إلى جانب ميليشيّات «حزبيّة» يجتمعون في حركة نموذجيّة تختلط فيها الأفكار المسبقة والأحقاد النفسيّة والثارات الوهميّة والديماغوجيا المعادية للمختلف.
وبعد أن جرّبوا شيطنة الآخر بإظهاره في هيئة الأبالسة من أجل تبديعه وطرده من الملّة دينيّا، ها هم الآن يخوضون الخطّة الثانية وهي تخوين الآخر بإظهاره من أزلام النظام السابق أو التجمّع المنحلّ. وكانت صيحات الميليشيّات والغوغاء خلف أحرار تونس من مناضلي الوقت الصعب تنفيذا لهذه الخطّة. يوم 9 أفريل 2012 نحن بالتأكيد الآن.. لا قبل 74 عاما !