بعد ثلاثة أسابيع من ميلاده لم يستقرّ حال الحزب الجمهوري وبدا مسار نشأته بطيئا متذبذبا على خلاف مسار ميلاده الذي بدا يسيرا وفيه تجاوب من مختلف الأطراف خصوصا من الأحزاب التي أعلنت رغبتها في الالتحاق بالحزب الديمقراطي التقدّمي. ولم يخلُ المؤتمر التوحيدي المنعقد بسوسة قبل ثلاثة أسابيع من مظاهر التوتّر وعدم الرضاء على هذا التوجه الذي سار فيه الحزب الديمقراطي التقدّمي بالانصهار ضمن حزب واحد يتخلّى فيه الديمقراطي التقدّمي عن اسمه الذي عُرف به لمدّة عقود وكان في وقت من الأوقات عنوان نضال ضدّ نظام الاستبداد، وهو ما لم يستسغه البعض. تحفّظات ومخاوف وحتّى خلال اليوم الأخير من المؤتمر الذي شهد توحيد الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب آفاق تونس والحزب الجمهوري وقبل الإعلان عن اسم الحزب الجديد كانت بعض قيادات «الديمقراطي التقدّمي» تدفع بشدّة نحو «الاحتفاظ» بصفة الديمقراطي أو التقدّمي في تسمية الحزب الجديد حتى يكون حضور الحزب قويا في الأذهان ولا يتلاشى اسم الحزب الديمقراطي التقدّمي ولا يذوب في حزب يضمّ 9 أحزاب وبعض المستقلين والشخصيات الوطنية يمثل الديمقراطي التقدّمي المكوّن الأكبر داخله حتى من خلال تركيبة المكتب التنفيذي الجديد (10 أعضاء من بين 17 عضوا). لكن بعد المفاوضات «رضخ» الديمقراطي التقدّمي وكانت التسمية التي فاجأت عديد الملاحظين «الحزب الجمهوري» وبدا أنّ الديمقراطي التقدّمي صار نسيا منسيّا. وقد كانت الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي مية الجريبي والتي انتخبها المؤتمر أمينة عامة للحزب الجديد (قبل الاتفاق على الاسم) تُصرّ خلال لقاء صحفي على هامش المؤتمر التوحيدي على القول إنه «من هنا فصاعدا لا أحد سيتحدّث باسم حزبه ... لن يكون هناك حزب ديمقراطي تقدّمي ولا آفاق... بل الديمقراطي التقدّمي سابقا وآفاق سابقا، وهكذا». ويبدو أنّ هذا المسار الذي اتجه فيه الديمقراطي التقدّمي كان محلّ تحفّظ من طرف فئة من قياداته، وقد بدأت «المشاكل» منذ انتخاب اللجنة المركزية للحزب حيث أعلنت مجموعة من قياداته تحفّظها على الطريقة التي وصفوها ب«اللاديمقراطية» التي جرت فيها الانتخابات وأصدرت بيانا أعلنت فيه تعليق العضوية من الحزب ورفضها المسار التوحيدي. ومنذ ذلك الحين بدأ التوتر مع ميلاد الحزب الجديد واحتدّت التجاذبات وأصبحت الخلافات واقعا لا يمكن إخفاؤه رغم تقليل الأمينة العامة للحزب مية الجريبي أو بعض أعضاء المكتب التنفيذي للحزب الجمهوري من أهمية هذا الحراك الذي يهدّد مسار الحزب الجمهوري. وثمّة مسألتان تؤكّدان أنّ طريق الحزب الجمهوري ليست سالكة وأنّ تيار معارضة الانصهار لا يزال قويا ويعمل على إعادة ترتيب أموره وهما «اللقاء الوطني لتقرير المصير» الذي بدأ أمس ويتواصل اليوم في سوسة وتعقده الأطراف المنشقة عن الحزب الجمهوري والرافضة لمسار الانصهار وتصريحات عضو المجلس التأسيسي الدكتور منصف شيخ روحه بأنّ عددا من نواب الحزب الديمقراطي التقدّمي في المجلس وعددا من مناضلي الحزب يرفضون المسار الذي ذهبت فيه قيادة الحزب معتبرين أنه لم يتم تشريكهم في ذلك. وقد أكّد شيخ روحه أنّ الحزب الديمقراطي التقدّمي لا يزال قائما ولم يتمّ حلّه وأنه سيعقد مجلسه الوطني لتدارس تصوراته والبدائل التي يمكن تقديمها على الساحة السياسية. أيّ دور وأي مستقبل؟ وبالإضافة إلى هذه التصريحات التي تنمّ عن عدم رضاء بهذا التوجه جاءت تصريحات القيادي في «الديمقراطي التقدّمي» أحمد بوعزي لتكشف حقيقة انصهار «أحزاب الوسط» ضمن الحزب الجمهوري والتي اعتبرها خطأ قد يتسبّب في هزيمة الحزب الجديد في الانتخابات القادمة. فقد أكّد بوعزي أن الحزب الجمهوري خطوة نحو جمع أكثر ما يمكن من أحزاب هدفها إسقاط حركة «النهضة». وذكّر بوعزي في هذا السياق بأن فشل الحزب الديمقراطي التقدمي في انتخابات 23 أكتوبر كان أساسا بسبب قيام حملته الانتخابية على الاستقطاب الثنائي وشيطنة «النهضة» والوقوف ضد حل التجمع وقال إن هذه العوامل جعلت التونسيين يصنفون الحزب في خانة العهد السابق. وحذّر بوعزي من أن الحزب الديمقراطي التقدمي في ظل الحزب الجمهوري بصدد ارتكاب أخطاء مشابهة لتلك التي ارتكبها في الانتخابات الماضية وأشار إلى أنه لم يكن مقتنعا منذ البداية بتوجه الديمقراطي التقدمي نحو الانصهار مضيفا «أتمنى أن يعود أحمد نجيب الشابي الى الديمقراطي التقدمي ويعيد هيكلته على أسس ديمقراطية». وإذا ما صدقت قراءة بوعزي لهذا المسار فإنّ الحزب الجمهوري سيواجه مصاعب جمّة قد تنتهي بتفكّكه إذا ما فشل في الانتخابات القادمة وعجز عن تقديم بدائل خاصّة إذا ما مضى في نفس النهج القائم على انتقاد كلّ ما تأتيه حركة «النهضة» دون تقديم رؤية واضحة لإصلاح الوضع وبالتالي الوقوع في نفس أخطاء الماضي. وكان أحد الوجوه التي قادت مجموعة المنشقين عن الحزب محمّد الحامدي صرّح قبل أيام في حديث ل «الشروق» بأنّ تشكيل حزب جديد قريبا فرضية قائمة، ممّا يوحي بأنّ لغة الحوار تكاد تكون معطّلة مع الشق الذي اختار مسار الانصهار. نحو حزب جديد؟ وفي هذا السياق قال عضو المجلس التأسيسي عن الحزب الديمقراطي التقدّمي محمّد ناجي غرسلّي ل«الشروق» إنّ لقاء تصحيح المسار المنعقد حاليا في سوسة يمثّل مرحلة ما قبل المؤتمر الذي قد يُعلن ميلاد حزب جديد حيث جرى أمس بعد الافتتاح اجتماع مغلق لقيادات الحزب وتم بعده تكليف لجنتين الأولى لإعداد لائحة سياسية والثانية لإعداد لائحة تنظيمية على أن يتم اليوم مناقشة اللائحتين. وأكّد غرسلي أنّ اللقاء يشهد مشاركة نحو 170 من كوادر الحزب والمناضلين القدامى تم جمعهم من الولايات والجامعات (بمعدل 8 إلى 10 كوادر من كلّ جامعة) وأنّ هؤلاء يشتركون في التحفّظ على التمشي الذي اعتمده الحزب منذ ما بعد 14 جانفي وخصوصا دخول أحمد نجيب الشابي حكومة الغنوشي و«كثرة أخطائه وتصرفه في الحزب على أنه ملك خاص له وبعض المقربين منه، فضلا عن عملية التوسعة التي شهدها الحزب والتي لم تشمل سوى المقربين من الشابي وجماعته وكذلك بعض الوجوه التجمعية». وأضاف غرسلي أنّ المشاركين في اللقاء يسعون إلى إنشاء حزب جديد بعد القطع مع قيادة الحزب الديمقراطي التقدّمي دون القطع مع الحزب الذي لا يزال عمليا وقانونيا قائما، ولم يستبعد التحاق بعض القوى التقدّمية خصوصا من التكتل والتي لم تكن راضية عن توجه الحزب بعد الانتخابات لتشكيل حزب جديد. وذهب غرسلّي إلى القول إنّ الحزب الجمهوري يُعدّ لبنة أولى لعودة التجمّعيين من خلال نجيب الشابي وكذلك الباجي قائد السبسي. تطوّرات مثيرة في الحزب الديمقراطي التقدّمي قد تكشف بعد لقاء «تصحيح المسار» وانعقاد المجلس الوطني عن الوجهة التي سيتّخذها المتحفّظون على مسار التوحيد.