جدّت عشيّة اليوم الاول من المؤتمر 36 لمنتدى الفكر المعاصر الذي تنظمه مؤسسة التميمي حول التعذيب والاضطهاد بالمغرب العربي منذ الاستقلال على مدار ثلاثة أيّام مشادة كلاميّة بين الطاهر بلخوجة وزير الداخلية الأسبق وعدد من المساجين السياسيين الذين عذّبوا في معتقلاتهم في عهده. وكان بلخوجة قد أكد في مداخلته أثناء فتح باب النقاش أنه، كوزير داخلية آنذاك، كان «عضوا في منظومة كاملة تدين بطاعتها لرجل نحترمه لتاريخه ونضالاته وخياراته هو بورقيبة» مضيفا أنّ «التعذيب في عهد بورقيبة مختلف عن التعذيب تحت نظام بن علي لأنّ بورقيبة كان يودّ فقط تأديب أبنائه» وهي الكلمة التي لم يستصغها الحاضرون من مساجين سياسيين سابقين فطالبوه بالاعتذار فورا. إذ قاطعه السجين السياسي سابقا محمد الصالح فليس «ماناش يتامى يا سي الطاهر عندنا والدينا هذه علاقة حاكم ومحكوم» وطالبه الصادق بن مهنّي بالاعتذار عن كلمة تأديب قائلا بنبرة حادة «أنت عذّبتني الآن لأنّك تحدّثت عن تأديب وليس تعذيبا». من جهتها قالت رئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب راضية النصراوي «أستغرب كيفيّة تدخّل الطاهر بلخوجة والحال أنّ المسؤول الاول عن الداخلية لا يمكن أن يعتبر نفسه بريئا في ممارسات تحدث داخل وزارته وإلاّ فكيف له تحمّل المسؤوليّة؟». حينها تدخّل بالخوجة بصوت متوتّر يشوبه الغضب «لم أقل يوما إنّني لست مسؤولا ولكن كانت لديّ مسؤوليّة أدبيّة وسياسيّة فحسب وقد اعترفت بهذا في قناة الجزيرة منذ 8 سنوات». من جهتها وجّهت السجينة السياسية السابقة زينب الشارني، في شهادتها عن تجربتها مع التعذيب، اتهامها بشكل مباشر لبلخوجة بالأمر بتعذيبها قائلة بصوت مخنوق وهي تدمع «اطلب منك الاعتذار فورا لأنّك كنت تذهب للبرلمان وتقول نحن ديمقراطيّون في الوقت ذاته الذي كنت أعذّب فيه في معتقلاتكم شُرّدت ل8 سنوات بسببكم» ومثلها حمّل حمّة الهمّامي الطاهر بالخوجة مسؤولية التعذيب قائلا «لقد كنت على علم بصفتك وزيرا للداخلية بما يحدث وقد قلنا هذا في المحاكم سابقا». وتدخّل الصادق بن مهنّي ليقول «لم نأت هنا لنحاسبك سي الطاهر وإن أردت أن أذكّرك بأّنك لمّا أنهى الرفاق محكوميتهم رفعت لبورقيبة مرسوما في إلغاء عفو وزدتهم 8 سنين أخرى سجنا باش المنظمة الطلاّبية ما تتعاودش تتبنى» يقاطعه بلخوجة «وماذا فعلت أنا في السجون حين كنت وزيرا» فيردّ بن مهنّي «حسّنتها ومن واجبك آنذاك أن أكون خارج السجن وليس داخله لتحسّن اقامتي هناك». ممارسات التعذيب كان هؤلاء، المساجين السياسيون السابقون الذين حوكموا لأفكارهم وقناعاتهم وتوجهاتهم السياسية المختلفة مع توجهات بورقيبة ومن بعده بن علي، على اختلاف انتماءاتهم يتشابهون في ذات الملامح المتأثّرة وهم يروون شهاداتهم عن سنوات التعذيب التي قضوها في دهاليز الاعتقال وفي ضيعات خُصّصت للتنكيل بهم. هؤلاء أغلبهم مايزال متأثرا «بوجيعته» وأغلبهم أيضا يعلوه الحياء حين يتحدث عن تفاصيل تعذيب طالت أماكن حسّاسة في أجسادهم بل هم يرفضون النبش في تلك التفاصيل وكشفها فيتجاوزونها في رواياتهم. وحدهما، حمّة الهمامي ورفيقه الصادق بن مهنّي، من بدا عليهما أنهما قد تجاوزا تلك التفاصيل ولم يعد لها أثر على نفسيتهما إذ يقول حمّة الهمّامي في شهادته «هدّدوني بالاغتصاب ولكنّ المكلّف بالقيام بذلك رفض وقال فك عليّ يطلعش مريض هذا» ومثله يقول بن مهنّي ضاحكا «المكلّف باغتصابي رفض ذلك قائلا ما نغتصبش قرد وكان يقصد طبعا كثافة الشعر على جسدي وهو أمر جيّد ورثته». عداهما لا ينبش الآخرون فيما حصل لهم من ممارسات تعذيب داخل معتقلاتهم المجهولة فيكتفون بالقول إنّ ما حصل معهم يفوق المتوقع بكثير. ويتذكّر حمّة الهمّامي يوم قال له معذّبوه «اليوم باش نقتلوك» واقتادوه الى بطحاء فيها قبر في ضيعة مبروكة1 المخصصة للتعذيب في مدينة نعسان وكيف سأله مسؤول أمني، يُدعى هادي قاسم حسب قوله، كان يرافقه الى ذلك المكان « كيف مات غفارا أجبته قُتِل في الجبل فقال لي شهّد ثمّ دفعني على وجهي وسط القبر قائلا حتّى كرطوشة ما تستاهلهاش ادفنوه حي». اتهام الباجي قايد السبسي تتذكّر حلّومة بن قيزة زوجة حمّادي بن قيزة المتهم في مؤامرة 1962 في شهادتها حول تعذيب زوجها كيف كان السجّانون يتعمّدون سكب الزجاج المكسور في «الآريا» في سجن غار الملح أين كان يُجلد زوجها ومرافقوه وهم يركضون فوق الزجاج. ووجّهت المتحدثة اتهامها بشكل مباشر لمدير الامن الوطني الاسبق الباجي قايد السبسي بالتعذيب قائلة «السبسي زار زوجي ورفيقه الماطري في سجنهما بعد تعيينه مديرا عاما للامن الوطني وكان يومها في كامل أناقته وفي يده سيجاره وقال للماطري» شفت يا منصف وين وصّلت روحك» ونفض عليهم سيجاره وغادر». وأضافت بن قيزة «الباجي قايد السبسي كان قاسيا جدّا. ومثلها اتهمت رشاء التونسي، شقيقة السجين السياسي السابق تميم التونسي، الباجي قايد السبسي بالتورّط في التعذيب «حين زار المعذّبين في المعتقل قال لهم «ها الكلاب مازالوا حيين ماماتوش» متسائلة هل النسيان ممكن؟. من جهته قال الحبيب الكرّاي في شهادته عن التعذيب الذي عايشه ثلاث مرّات تحت نظام بورقيبة وكان «أمرّهم التعذيب الذي تعرّضت له خلال اعتقالي عام 1985 وأذكر أنّ جلدي انسلخ مع عصى جلاّدي اثناء حصص التعذيب ومن شدّة اللطم على وجهي» مضيفا «يشعر المعذّب أثناء حصص التعذيب أن دقّات قلبه تتحوّل الى كابوس». ويرى الكرّاي أن النسيان غير ممكن «فهذه أمور لا تنسى فنحن نعيش اليوم بمخلفاتها وشخصيا لا أنسى كل صباح أن أتفقّد أنني أنا من يتحكّم في بابي وتلك مخلفات ما تعرّضت له أثناء اعتقالي كما أنني أرفض أن يكون باب منزلي من حديد ولا أدرّس في قسم مغلق تلك مخلفات لا أستطيع التحكّم فيها». كما قال الكرّاي «أعتقد أنّ الوقت لم يحن بعد كي يجلس الجلاّد أمام الضحيّة ويطلب الاعتذار فالاعتذار وحده قد يكفي للمّ تلك الجراح». وفي ختام النقاش تدخّل عبد الجليل التميمي متوجها بكلامه الى الطاهر بلخوجة «الشعب التونسي ينتظر الاعتذار عبر وثيقة مكتوبة ومختومة من قبل رموز النظام البورقيبي سيكون لذلك صدى إيجابي فالاعتذار عبر فضائية أجنبية لا يكفي». كما تمّ عرض شريط وثائقي يحمل اسم «الحنظل» يروي فيه المساجين السياسيون السابقون شهاداتهم حول التعذيب وانتهى عرضه إلى مصافحة أثارت الجميع حدّ البكاء. تلك المصافحة تمّت بين سجين سياسي إسلامي سابق وراضية النصراوي التي كانت تدمع ودمع بعدها الكثيرون والسجين يقول «لا تحقروا ضعف البنية الجسدية لهذه المرأة فهي وحدها التي رفعت على أكتافها هامات الرجال المعذّبين في سنوات الجمر».