هناك من المؤشرات ما دفع بالعديد من المتابعين لنشاط حركة النهضة في السلطة وضمن فضاءات وأطر الحياة السياسيّة للتخوّف من إعادة انتاج نفس المنظومة السياسيّة الّتي حكمت تونس لأكثر من 50 سنة والتي كان عنوانها هيمنة الحزب الحاكم على مختلف مفاصل الدولة والمشهد السياسي. البعض من العقلاء السياسيين، والمختصّين كذلك، يتساءل عن المصلحة الّتي ستكسبُها حركة النهضة من وراء تمشّ مماثل يُكرّس عقلية الانفراد بالسلطة والقرار الوطني وتهميش الخصوم السياسيين وينتهي بفشل المسار والخيبة السياسيّة على غرار ما حدث لحزب التجمّع المنحل وغيره من الأحزاب الّتي انفردت بالحكم في العديد من دول العالم ، ولئن اتّضح من خلال عدّة تصريحات لقيادات «النهضة» ما يؤكّد رفض ذلك التوجّه والانصراف رأسا لبناء تجربة سياسيّة تعددية قوامها الديمقراطية ومدنية الدولة ومؤسساتها ورفض تداخل الهياكل الحزبيّة مع هياكل الدولة ويضرب أولئك مثلا في نجاح تجربة «الترويكا» الحاكمة في توليف مزيج سياسي متنوّع يجمع بين الإسلامي(النهضة) والاشتراكي (التكتّل) والعلماني الحداثي (المؤتمر) ، لئن اتّضح ذلك فإنّ تصريحات أخرى من قياديين آخرين في النهضة بل وحتى بعض الممارسات تُوجد فعلا نوعا من التخوّف من إمكانيّة فرض واقع سياسي جديد يذهب بتونس نحو استنبات نظام جديد برأس واحدة سواء تحت غطاء النظام السياسي البرلماني أو نظام إسلامي مهيمن.
ومع الإقرار بأنّ لا مصلحة ل«النهضة»- أو أيّ حزب آخر في إعادة صياغة نظام سياسي بحزب واحد مهيمن لأنّ الخسارة مؤكّدة في مثل كذا توجّه يحرم البلاد من حالة التنوّع السياسي والثراء ، بل إنّه ربّما يكون من باب «الغباء السياسي» أن يسير حزب مّا في أجندة لتأبيد وضع هيمنة بقدر ما يُفقد الحياة السياسيّة طعمها فإنّه يؤدّي في النهاية إلى تآكل البُنى الحزبيّة والهياكل والنظريات والمرجعيات لأنّ غياب المنافس مدعاة لا فقط للانفراد بالرأي والقرار بل أيضا سبب مؤكّد للخمول والركود وغياب القدرة على مواصلة التجدّد والتغيّر، لقد عمل الحزب الدستوري ومن بعده حزب التجمّع لأكثر من 50 عاما هيمن وتسلّطا وانفردا وفعلا ما شاءا وفي الختام انتهيا إلى «لا شيء».
السؤال المهم في طرح مثل هذه الإشكاليّة في اعتقادي هل بإمكان حركة النهضة أو غيرها من القوى امتلاك القدرة على إعادة إنتاج منظومة الحزب الواحد؟ الجواب قد يكون صعبا وغير يسير، فإذا سلّمنا بفرضيّة توق «النهضة» وأنصارها إلى الهيمنة والتي تبقى حاليا في باب قراءة النوايا، فإنّ معطيات عديدة لن تُسهّل على «النهضة» وأنصارها بلوغ ذلك «الحلم»، فليس فقط طبيعة التحوّل الّذي حدث في تونس والّذي يتّجه فعلا ليكون «ثورة شعبيّة» ضدّ منطق الهيمنة والتهميش والإقصاء، فمن هذه الزاوية فإنّ «الثورة» لن تُنتج واقعا ثارت من أجل تغييره وتبديله وقلب معادلته بعد أن أبرز عجزه وعدم قدرته على تحقيق الاستمراريّة وبعد أن تآكلت مختلف زواياه وأركانه وتشتّت مكوناته.
ليس فقط منطق الثورة بل أيضا هناك مسائل أخرى ، منها أنّ مصير شتات المعارضة ( وبالأخص منه الكتلة الدستوريّة) سيسير حتما إلى التوحّد وتصعيد «قوّة بديلة» عن السلطة القائمة اليوم وحزبها الأغلبي أي حركة النهضة، وربّما في هذا الباب سيكون من باب التعامل البرغماتي أن لا تُعطّل «النهضة» بروز قطب معارض قوي ومهيكل وأن يتعفّف قياديوها وأنصارها عن النبش في تركة الماضي ومنطق تصفية الحسابات مع خصوم الأمس والنظر إلى المستقبل أكثر من الالتفات إلى الماضي. نعم، في الماضي هناك رداءة وهناك سلبيّات عديدة، هناك جرائم وهناك ضحايا وخسائر وإضاعة للكثير من الوقت، لكنّه من الغبن السياسي أن يُنظر إلى ذلك الماضي على أنّه كتاب أسود مظلم عدمي مليء بالنتوءات والسلبيات لا غير.
ومن تلك المسائل أيضا ما هو ناجم عن اقتران الوضع المحلي بوضع إقليمي ودولي مفتوح ومتشابه يرنو إلى تعزيز أركان الحريّة والديمقراطيّة والكرامة، وضع خبر أنّ «الهيمنة» السياسيّة باب إلى الخراب المادي والاقتصادي والفكري والحضاري أيضا ، إذا لم تكن أنظمة الهيمنة في المنطقة العربيّة هي المُنتجة للتطرّف والإرهاب؟ ألم تكن تلك الأنظمة «الفاسدة» هي الّتي تقف خلف فشل المنظومة التنمويّة وجرّت وراءها الآلاف من جحافل المهاجرين غير الشرعيين من دول الجنوب إلى الضفّة الشماليّة للمتوسّط؟.
ونظريا، قليلة هي تجارب الانتقال الديمقراطي الّتي لم يحدث في طور تشكّلها تعايش بين النظامين السياسيين القديمين، وفي صورة الحال نظام أوّل أو قوّة سياسيّة تقودها النهضة ونظام ثان أو قوّة سياسيّة موازية من الرحم النقي للتجربة السياسيّة السابقة أي «الكتلة الدستوريّة» المدعوة إلى إجراء عملية فرز داخلها وتحقيق النقد الذاتي المناسب والقابل بجديّة لطبيعة المرحلة الّتي أفرزت صعود خصمها السابق إلى سدّة الحكم.
فهواجس «الهيمنة» ومحاذيرها تتجاوز أفق حركة النهضة إلى أفق تاريخي ، يستحضر التجربة السياسيّة التونسيّة، وإلى أفق إقليمي ودولي أضحى اليوم أكثر تشابكا وترابطا دفاعا عن الحريّة والشفافيّة والتنمية العادلة ، وإلى أفق إنساني يرى «الإسلام» شأنا عاما لكلّ البشر ويتطلّع منه ممارسة سياسيّة مدنيّة وحضاريّة لا تقتل الاختلاف والتنوّع وترفض الإرهاب والتطرّف وسفك الدماء ونشر الأحقاد باسم الدين والتديّن.
وفي المحصلة ، فإنّه وعلى افتراض أنّ «النهضة» قد انخرطت بعد في سياق لإنتاج منظومة حزب واحد مهيمن فهي لن تمتلك القدرة على تجسيد ذلك على أرض الواقع فالموانع كثيرة ومتعدّدة ، وكلّ هذه الموانع واقعيّة وموضوعيّة ولا يُمكن لأحد تخطّيها لا أخلاقيّا ولا سياسيّا، إذ أنّ انتاج «منظومة هيمنة وفساد جديدة» هي في المحصلة غباء للواقفين خلفه وهي أيضا غباء للثورة وغباء للشعب كذلك، والشعب التونسي لم يكن يوما غبيّا ونحسبُ أيضا أنّه لا «النهضة» غبيّة ولا «الثورة» أيضا غبيّة». إنّ القول برغبة طرف سياسي في «الهيمنة» في واقع الحال هو قول عقيم فيه الكثير من الاستخفاف بتضحيات التونسيين لعقود طويلة من أجل بناء سياسي ديمقراطي تعددي عادل وشفّاف للكل فيه حظ دون إقصاء أو تمييز.