تخيل نفسك واليا تطل من شرفة مكتبك فتجد مئات من الجمال ترابط أمام مقر الولاية ثم يطلب منك أصحابها أن تبحث لها عن حل أو أن تتكفل بإطعامها ورعايتها.هذا المشهد عاشه والي نابل السابق، وقد يعيشه الوالي الجديد قريبا.
المشكل ليس في البحث عن حل للمشكلة بل في إقناع أطرافها بقبول الحل والغريب في الموضوع أن كل طرف يقدم التنازل بعد الآخر ما يوحي بإمكانية الاتفاق والتوافق والتصالح والتعايش لكن كل متنازل يرفض تنازلات خصمه. فما هي مشكلة «الجمالة» ومن هم أطرافها وكيف يمكن حلها؟ «الجمّالة» هو المصطلح الدارج لأصحاب الجمال المستعملة في الرحلات الترفيهية السياحية، وقد ظهرت على بعض الشواطئ التونسية مثل شواطئ ولاية نابل منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، ثم تم تنظيمها نسبيا فصدر قرار عن الوالي يوم 21 ديسمبر 1972 يمكن كل «جمّال» من رخصة ممارسة وفق شروط ميسرة (تأمين الجمل والحريف، ودفع معلوم شهري للبلدية مرجع النظر، والالتزام بشروط النظافة...). وقد ظهرت عدة مشاكل بمرور الأعوام أهمها إلحاق الضرر بالشواطئ والسياح والمصطافين فانطلقت المفاوضات التي انتهت سنة 1998 إلى تنظيم القطاع وذلك بمنع الجمال من دخول الشواطئ، وفي المقابل مساعدة أصحاب المهنة على إحداث مراكز تنشيط سياحي بالدواب (الجمال والخيول) وتحديد مسالك الرحلات بعيدا عن الشواطئ. قطبان متشددان
وجد أصحاب المهنة أنفسهم إذاك أمام الأمر الواقع فاجتهد بعضهم في توفير مصاريف إنشاء مراكز التنشيط (بيع الممتلكات العقارية أو الاقتراض أو غيرهما). ولم يجد الآخرون غير العمل مع أصحاب تلك المراكز بنسب مائوية أي إن الجمّال يحصل وجمله (في المعدل) على نسبة 30 بالمائة من معلوم الرحلة التي تنطلق من أحد المراكز التنشيطية وتعود إليه، فيما يحصل صاحب المركز على النسبة الباقية من هذه الشراكة وعلى نسبة 100 بالمائة من تشغيل جماله الخاصة في رحلات موازية. وتواصل العمل بهذه الطريقة حتى اندلاع الثورة عندما قرر «الجمّالة» غير المالكين لمراكز تنشيط قطع تعاملهم مع المراكز، والعودة إلى الشواطئ حيث يمارسون نشاطهم ويحصلون على معلوم الرحلة الترفيهية كاملا. هذا التصرف لم يرق لأصحاب المراكز فاعترضوا عليه وطالبوا بتطبيق القانون ومنع الجمال من دخول الشواطئ، لكنهم لم يجدوا آذانا صاغية فنسقوا في ما بينهم وقادوا المئات من جمالهم إلى مقر ولاية نابل حيث طلبوا من الوالي «التدخل لتطبيق القانون» أو الخروج لرعاية تلك الجمال لأنهم لم يعودوا في حاجة إليها. ونجح الوالي (السابق) في الخروج بحل توفيقي يسمح «لجمّالة الشواطئ» بإنشاء 4 مراكز تنشيط خاصة بهم وربط الصلة المباشرة بينها وبين عدد من النزل (تم تحديدها لاحقا والاتفاق معها) لكن الجمال لازمت الشواطئ، وظلت نار الخلاف تتأجج يوما بعد يوم بين قطبين متشددين أولهما «الجمّالة» المدعومون بنقابتهم التابعة لاتحاد عمال تونس. وثانيهما أصحاب مراكز التنشيط المسنودون بالغرفة الجهوية لأصحاب المراكز، والنقابة الأساسية لعمال تلك المراكز(تتبع اتحاد عمال تونس). الخلاف بين الطرفين يبدو حادا وحلوله مستعصية أمام استماتة كل طرف في الدفاع عن مصالحه وسنحاول استعراض نقاط الخلاف اعتمادا على ما وضحه جميع الأطراف كل على حدة:
«يخالفون القانون باسم الثورة»
«قد تشهدون مجزرة رهيبة... بعض المظلومين أحرقوا أنفسهم أما أنا فلن أحرق نفسي بل قد أجمع دوابي امام مقر الولاية وأضرم النار في جميعها..» كلام السيد أحمد المبروك الذي يملك مركز تنشيط فاخر يصور عمق الأزمة فلنستمع إلى مظاهرها:»عندما فرض علينا القانون إنشاء المراكز التنشيط استجبت له مع بعض الزملاء والله يعلم كيف نجحت في توفير حوالي 200 ألف دينار من المصاريف، ثم أجد نفسي اليوم عاجزا عن خلاص ديوني، وتغطية مصاريف المركز الباهظة، وتوفير أجور العمال، وحتى إطعام أسرتي... كل هذا لأن هناك من يريد مخالفة القانون باسم الثورة (يقصد «جمّالة» الشواطئ) حتى يستفيد على حساب غيره». «عن أي استفادة وأي قانون يتحدث؟» هكذا رد الجمّال جمال جنيفة على كلام المبروك قبل أن يدافع قائلا: «هذه المهنة نتوارثها أبا عن جد، وأنا مثلا أمارسها منذ سنة 1970 (استظهر برخصة تنتهي صلوحيتها سنة 1998) ثم نفاجأ بقانون يحرم علينا نشاطنا ويحصره في من وجد الحيلة لتوفير مصاريف إنشاء المراكز».وأضاف أن تطبيق هذا القانون (الذي وصفه بالظالم) يعني البطالة. لكن رئيس الغرفة الجهوية لأصحاب مراكز التنشيط السياحي بالدواب مختار بن صالح يرد بأن القانون تفهم ظروف كل المهنيين، ويضيف: «لقد مكنا كل «جمّال» من نسبة 30 بالمائة من معلوم الرحلة الترفيهية خالية من أي أداء فماذا يطلب أكثر؟». ويواصل السيد أحمد المبروك في هذا المجال: «أنا عرضت على «الجمّالة» نسبة 35 بالمائة رغم علمهم بعجز النسبة الباقية عن تغطية المصاريف، واقترحت على بعضهم أن يشتغلوا في مركزي لحسابهم الخاص فخصصت لهم جناحا يستغلونه كما يحلو لهم دون أن أتسلم منهم مليما واحدا، المهم أن ننظم هذا القطاع ولا يتعسف فيه أحدنا على الآخر... لكننا لم نجد غير الرفض والانانية...» هناك فرق بين الكلام الجميل والتطبيق» هكذا يعلق الكاتب العام لنقابة الجمالة الجيلاني جنيفة فيما يأتي التوضيح على لسان الجمّال عبد القادر نوايلي: «عندما يعمل الجمّال مع مركز التنشيط وتكون أجرته وأجرة جمله بعد يوم كامل من العمل 900 مليم تتفهمون سبب عزوفنا عن التعامل مع المراكز» ترهيب السياح
ركز الكاتب العام لنقابة عمال مراكز التنشيط سمير الوائلي على مخاطر أخرى لمخالفة القانون وهي تلويث الشواطئ بفضلات الحيوانات ومضايقة السياح وحتى سرقتهم. وقد بحثنا عن مدى صحة هذه التهم فأكدها لنا السيد حاتم خليل مدير أحد النزل المشهورة في الحمامات، والسيد عماد بوذينة ممثل إحدى وكالات الأسفار وذلك نقلا عما ذكره عدد من السياح في شكاياتهم. وحاولنا من باب الموضوعية العثور عن أحد المتضررين ضمن السياح الذين صادفناهم فلم نوفق، لكننا اتصلنا بمسؤولين عن حماية الشواطئ في بعض النزل فأكد كل واحد تلك المخالفات.وقال كمال فرحات في هذا المجال إن بعض «الجمّالة» يقودون جمالهم على الشواطئ ويتصيدون الحرفاء ثم يطلبون منهم الركوب ويلحون بطريقة مزعجة..لكن زميله منصر سويسي أشار إلى سلوك خطير يكاد يتكرر يوميا وهو إقدام «الجمّال» على رفع أحد الأطفال بالقوة ووضعه فوق الجمل دون يراعي خوف الطفل وهلعه وبكائه. والأغرب أنه يأمر جمله بالسير ثم ينزل الطفل ويطلب من وليه أو مرافقه مبلغا ماليا لا يصدقه العقل. وقد دافع جمال جنيفة وعبد القادر نوايلي والجيلاني جنيفة عن براءتهم من هذه التهمة دون ان ينفوها: «هذه الممارسات موجودة فعلا لكنها لا تصدر منا بل من بعض الجمالة العشوائيين الذين استغلوا الثورة فاشترى كل واحد منهم جملا وصار يرابط به على الشواطئ حيث يعمل دون رخصة ولا تاريخ ولا خبرة..»وأضافوا: «نحن نعمل بعيدا عن الشواطئ ونملك شروط الممارسة ومتضررون من أولئك الجمالة العشوائيين».للأمانة حاولنا العثور على هؤلاء العشوائيين دون أن نوفق ويبدو أن جولتنا على بعض شواطئ الحمامات تزامنت مع حملة مراقبة كان يؤمنها أعوان الأمن السياحي. تنازلات بلا فائدة
سعت «الشروق» إلى تقريب وجهات النظر بين الطرفين فأكد لنا بعض أصحاب المراكز أن مطالبهم وتحركاتهم عادلة لأنها تهدف إلى حماية مصالحهم ومصالح أجرائهم «المشروعة» وضمان تطبيق القانون بالإضافة إلى حماية السياحة من الفوضى والمظاهر السلبية. لكنهم استدركوا ليؤكدوا أنهم لا يرضون بقطع أرزاق خصومهم والدليل أنهم اجتهدوا في تقديم التنازل تلو الآخر مثل احتواء خصومهم في المراكز، والترفيع في نسبة خدماتهم إلى 35 بالمائة (لدى بعض المراكز)، والسماح لبعضهم باستغلال جانب من تلك المراكز دون مقابل. وأكد أصحاب المراكز أنهم لا يستطيعون تقديم أي تنازلات أخرى لأن ذلك يعني إفلاسهم.وفي المقابل أكد لنا الكاتب العام لنقابة «الجمالة» أنه يرفض (نيابة عمن يمثلهم) جميع هذه التنازلات لأنها مجرد كلام منمّق يسعى من خلاله أصحاب المراكز إلى استدراج «الجمالة» قبل وضعهم أمام الأمر الواقع المرير. وقال إن تلك التنازلات غير جادة مقارنة بالتنازلات التي قدمها زملاؤه، وأوضح أنهم كانوا يملكون تسع نقاط تجمّع فتنازلوا عن خمس منها ورضيوا بأربع فقط، ثلاث منها في مدينة الحمامات ورابعة في مدينة نابل. وأضاف إنهم تنازلوا أيضا عن عدد النزل التي يتعاملون معها وقبلوا بأن تتعامل كل نقطة من تلك النقاط الأربع مع أربعة نزل فقط وترك بقية النزل لأصحاب مراكز التنشيط. «فهل بعد هذه التنازلات تنازلات أخرى؟» هكذا تساءل. وعندما عرضنا عليه إمكانية القبول بتنازلات أصحاب مراكز التنشيط وفق عقود تضمن حقوق كل طرف وتمنع الإخلال ببنودها، أجاب قائلا: «لا مجال للتعامل مع المراكز مهما كانت الضغوط والإغراءات...»ما نستخلصه في النهاية أن كل طرف يضع نفسه في موقع الضحية وصاحب الحق ويغلق باب الحوار مع الطرف الآخر، كما أن أي حل يرضي هذا الجانب يرفضه الجانب المقابل وما على الولاية غير الاجتهاد في إقرار حلول توفيقية وعادلة. يبدو الأمر صعبا ولكن قد ييسره التفكير أولا في المصلحة العامة (قطاع السياحة) على أن يكون التفكير في المصلحة الخاصة ثانويا.