صدرت في بيروت عن الدار العربية للعلوم ناشرون رواية جديدة للكاتبة التونسية رشيدة الشارني المعروفة في نصوصها القصصية بكتاباتها الواقعية ودفاعها عن حقوق الانسان وخاصة حقوق المرأة وتصوّر الرواية بشكل عميق مأساة الأمهات في علاقتهن بسجون الرأي انطلاقا من معاناة عائلة تونسية اعتقل ابنها الأصغر «غيث» بسبب مواقفه السياسية.. فانطلاقا من شخصية الأم خضراء الجبالية تكشف رشيدة الشارني صور النضال الحقيقي للمرأة التونسية في عفويتها وصدقها وعمقها وعنفها ومعاناتها وشقائها ودموعها.. وأيضا في تحديها للسلطة وأعوان السجون من أجل حماية ابنها والدفاع عنه في كل السجون التونسية: في برج الرومي والقصرين وصفاقس والهوارب.. وتتوقف الكاتبة عند خيبة الشباب التونسي ويأسهم من واقعهم فيهاجر الابن الأوسط بشكل سريّ ويضيع الأكبر بين الحانات.. فلم يكن شباب البلاد الا «كائنات حية ميّتة يغذيها القهر ولا تؤول الى مآل».
«تراتيل لآلامها» هي رواية الواقع والمسكوت عنه في مظاهر البؤس الاجتماعي والتوتر السياسي وفساد النظام في كلّ اختياراته وخاصة في القضاء و الاعلام والتربية وقد استشرفت رشيدة الشارني الأسباب العميقة لسقوط النظام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا فكتبت بدقة وعمق انطلاقا من وضعها العائلي ومن محبتها لأمها واخوتها ومحيطها في تونس وعين دراهم.. فلم تكن الراوية دنيا الا رشيدة الشارني فردا من هذه العائلة التونسية التي روّعها النظام السابق.. ولم تكن الا ابنة لأمّ عرفت كلّ أشكال المحن والشقاء.
عادت رشيدة الشارني في سياق تحليلها لشخصية خضراء الجبالية الى النصف الأول من القرن العشرين وتحديدا الى زمن الاستعمار وكشفت بعض ملامح مقاومة أهالي الشمالي الغربي للمستعمر واستحضرت الفلاقة الذين سكنوا الجبال.. وبطولات علي بن غذاهم والدغباجي والبشير بن زديرة وغيرهم من رموز النضال الوطني.. وليست الكتابة عند رشيدة الشارني الاّ رحلة تذكّر وبوح واستشراف عبر تجريب تقنيات سردية متنوّعة الاحالات وخاصة فيما يتعلّق بتعدد الأبطال وتعدد الأمكنة وتناوب الشخصيّات على عملية السرد وتوظيف الشعر والموسيقى والتاريخ والفن التشكيلي و الأحجية كمرجعيات أساسية تستضيء بها شخصية دنيا الراوية:
« البقرة عمرها ما تجيب غزال
تجيب عجل مدلدلة وذانيه أصل الصيودة أولادها قتالة وولد الضبع منداف يحصل فيه» (ص124). ولا يمكن أن تكون الأم خضراء الجبالية في عمقها الانساني الا كناية عن تونس وعن الأرض وعن الوطن الذي يخرج من السراديب و الظلمات الى الحرية والأنوار.. ولئن ماتت خضراء الجبالية فان موتها هو رمز لشهداء هذه البلاد الذين قدموا دماءهم ثمنا للحرية. «خضراء يا لون تونس ليل الغرابيب قصير وكل العمر أرخص من دمعتك» (ص 165)