برغم ما يحيط بالحياة الوطنية من غموض وملابسات فان العديد من المؤشرات تؤكد ان مسار الانتقال الديمقراطي يتقدم في اتجاهه الصحيح تثبيتا لخيار الحرية والكرامة والعدالة والمساواة. بدأت جل الملفات والقضايا في التوضح واستقرت المعادلات الصعبة المتعلقة أساسا بأجهزة الدولة وحدود العلاقة بينها وطبيعة تشكل المشهد السياسي الجديد بين القوى الوطنية الفاعلة في السلطة والمعارضة على قاعدة التواصل البناء والمقترح الهادف وخدمة الصالح العام, استقرت تلك المعادلات التي أعادت للحياة جزءا كبيرا من نسقها المعتاد في مدارها الصحيح.
الأحداث والمستجدات الوطنية الأخيرة وعلى ما كان فيها من تجاذب عنيف وتداخل وضبابية فقد أقامت آخر عمليات الفرز الوطني عندما سقطت آخر ورقات التوت التي كانت تُغطي عورات قوى الردة والانتهازية والمصالح الفئوية والضيقة والتي أضحت اليوم أكثر انكشافا ومحاصرة وأكثر انعزالا أيضاً.
انتهت اليوم لعبة التشكيك في مسار الانتقال الديمقراطي وتهاوت أجندة الطامعين في قلب الصورة التي أفضت إليها انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وأضحى الفعل السياسي الغالب لدى جل الأحزاب والنخب والقوى الوطنية متجها نحو الأداء الأفضل من حيث قوة المقترح والتصور وطرح البدائل تسليما نهائيّا بالأمر الواقع وتأهبا واستعدادا للاستحقاقات الانتخابية والسياسية القادمة التي ستحدّد نمط الحكم الدائم.
لقد عكس الحراك السياسي الأسبوع المنقضي بداية حملات انتخابية سابقة لأوانها ، حيث تكلمت قيادات الترويكا وتحرّكت الحكومة في كل اتجاه وتعدّدت مبادرات المعارضة الجادة وبدأت الأوضاع الأمنيّة والأوضاع في الجهات تتحسّن ونشطت النخب في الندوات والمناظرات تُقارع الحجّة بالحجّة والرأي بالرأي ممّا أوجد انطباعا بأنّ المشهد يسير فعلا في اتجاه أكثر جديّة ورصانة وأضحى يبتعدُ شيئا فشيئا عن مناطق التوريط والمؤامرات والمزايدات وركوب الأحداث الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتوظيفها بشكل سيء.
إنّ عمليات الفرز «الثوري» و«الديمقراطي» والتي هي طبيعيّة ومطلوبة في مثل الحالة التونسيّة تعيش اليوم آخر مراحلها، وستتساقط تباعا كل الفزاعات والإشاعات وبعدها سيجدُ تيار الأحقاد والضغينة نفسه في منطقة معزولة ونائية غير قادر على التأثير في مجريات الأحداث بعد أن تهاوت آخر معاول الهدم من بين يديه، وستُتاح حينها لقوى الخير والإصلاح والمصالحة والبناء في السلطة والمعارضة الفرصة كاملة لإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي والبدء في تحقيق طموحات الشعب وتطلعاته اليد في اليد والقلب إلى القلب. إنّ التدافع، بما فيه من أضرار وتداعيات سلبيّة، كان لازما وضروريّا لبلوغ أقصى درجات الفرز بين قوى الإصلاح وقوى الهدم.