بالفيديو: قيس سعيّد: هم رفضوا الانتخابات التشريعية واليوم يتهافتون على الرئاسية    القمودي: مؤامرة تُحاك ضدّ تونس    نشاط للهيئة العليا لوزارة أملاك الدّولة    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    روسيا تشهد اليوم تنصيب بوتين رئيسا.. وأميركا تتغيب عن الحضور    أولا وأخيرا .. دود الأرض    الصحة العالمية تحذر من شن عملية عسكرية في رفح    قراصنة يخترقون وزارة دفاع بريطانيا ويصلون إلى رواتب العسكريين    بالفيديو: قيس سعيد: تم اليوم إعادة حوالي 400 مهاجر غير نظامي    سعيد.. سيحال على العدالة كل من تم تعيينه لمحاربة الفساد فانخرط في شبكاته (فيديو)    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    النادي الصفاقسي يوضح تفاصيل احترازه ضد الترجي    صادرات قطاع القوارص ترتفع بنسبة 15,4 بالمائة    معبر راس جدير والهجرة غير النظامية أبرز محاور لقاء قيس سعيد بوزير الداخلية الليبي    جامعة كرة القدم تحدد موعد جلستها العامة العادية    ياسمين الحمامات.. القبض على تونسي وامرأة اجنبية بحوزتهما كمية من المخدرات    هل يساهم تراجع التضخم في انخفاض الأسعار؟.. خبير اقتصادي يوضّح    طقس الليلة: مغيم مع هبوب رياح قوية في كافة مجالاتنا البحرية    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    عاجل/ تفاصيل مقترح وقت اطلاق النار الذي وافقت عليه حماس    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    عاجل : القاء القبض على السوداني بطل الكونغ فو    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    تعرّض أعوانها لإعتداء من طرف ''الأفارقة'': إدارة الحرس الوطني تُوضّح    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    صادم: قاصرتان تستدرجان سائق سيارة "تاكسي" وتسلبانه تحت التهديد..    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اجتماع أمني تونسي ليبي بمعبر راس جدير    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : حمادي صمّود ل «الشروق» - سلفيو الفضائيات الجاهلة... يريدون اخراجنا من هامش التاريخ
نشر في الشروق يوم 11 - 06 - 2012

المنتدى : بعد استضافة الدكتور حمادي بن جاء بالله الاثنين الفارط يستضيف المنتدى اليوم الدكتور حمّادي صمّود الّذي أدلى بدلوه في مجمل القضايا السياسيّة والفكريّة المطروحة اليوم.

و«المنتدى» فضاء جديد تفتحه «الشروق» للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكادميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك إلى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة إثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

إنّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا إلى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الإعلاميّة اليوم، إنّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و»صراع النخب» و»جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكادميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والإنسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها ، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة – في حدود 400 كلمة ) وبإمكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي:[email protected] .

لماذا لم نسمع كثيرا منذ 14 جانفي الجامعيين والمفكرين يدلون بدلوهم حول ما تشهده البلاد؟صحيح أن عدد المساهمين منهم بالقياس إلى عدد المنابر التي عقدت في الإعلام المرئي والاستجوابات والأحاديث في الإعلام المقروء وهو عدد مهول بلا أدنى شك، قليل وقليل جدا كاد يقتصر على المختصين في القانون وإن كانت الملفات التي عالجت علاقة الديني بالسياسي أو مسألة التطرف الديني وكذلك تلك التي حاولت فهم أولويات الفعل الثوري الذي فاجأ الجميع ولم تتوقعه التحاليل الجيو سياسية ولا الدراسات الاستشرافية دعت إليها أسماء من الجنسين مشهودا لها بتمكنها وصائب تحاليلها في هذه الميادين المذكورة إلا أن الغياب الكاسح غطى على هذا الحضور من جهة الكم على الأقل.وأسباب ذلك كثيرة منها:أنّه من الصعب الحضور في الإعلام بالرغبة في الاستسقاء كما يدلّ على ذلك الفعل المستعمل في السؤال فأدليتُ الدلو ودلوتها في العربية معناها أرسلتها في البئر لتمتلئ ماء تصيب به خيرا عميما، نعم هناك من الجامعيين من تصدّر منذ الرابع عشر أو الخامس عشر من جانفي مقدمة الركح ونصّب نفسه خبيرا في السياسة مرشدا إلى سبل إنجاح الثورة والخروج بها ممّا صاحبها من الظواهر التي لم يعتد عليها من لم يعش ثورة في حياته كل ذلك من باب جلب المنفعة لنفسه والحق أنه غير مؤهل لذلك لا من جهة شهرته في اختصاصه ولا من جهة نقاوته الثورية ولا بد أن ننصف المثقفات والمثقفين الذين حرّكهم حسهم المدني العالي وحرصهم على صيانة مكتسبات الدولة الوطنية إلى رد الفعل على كل تحرك مريب وقرار محسوب ولكن مع ذلك تبقى العلاقة بين المثقفين والإعلام علاقة لا تقوم على أسس موضوعية. دلوني على مؤسسة واحدة تمتلك ثبتا بأسماء المثقفين البارزين والأساتذة الجامعيين بحسب ا ختصاصهم مرفقا بأرقام هواتفهم أو بعناوين سكناهم!ثم إن العلاقة بين المجتمع والجامعة علاقة متوترة منذ طلائع النشأة لسببين على الأقل: أن هذه الجامعة التي أُعدت لاستقبال التلاميذ الذين تكونوا حسب برنامج التعليم الذي أعدته الدولة الوطنية ناصبها شق من المجتمع العداء اعتبارا منه وهو اعتبار لا يخلو من الخطإ والتجنّي، أنها أزاحت تعليما آخر فقدوا بتراجعه سلطتهم ونفوذهم، والعلم سلطة كما لا يخفى. وأنّ هذه الجامعة شبّت على الاستقلال والذود عن حصانتها ومنع كل من تحدثه نفسه بتركيعها عن مراده فاتهمت جرّاء ذلك بالتنطع و«الانسلاخ» عن قضايا الأمة والسكون إلى «الأبراج العاجية» ومن القائلين بهذا من كان يشغل في صلب الدولة رتبة مرموقة ومكانة نافذة.لكن لا بد أن أذكر أن سبب الأسباب كان ضغط الأحداث وجبرها الإعلام على الاشتغال في «حالة الطوارئ» مستمرّة وإلا فإننا نرى بعد أن بدأت الحمأة تبرد واليومي يخفف من ضغطه التفتت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى منسيي الفترة الأولى وبدأت توسّع من دائرة دعواتها وتبذل الجهد لتوفّر للموضوع المطروح أعرفَ الناس به.ما هي قراءتك كمثقّف وكجامعي لما حدث في تونس؟قيل في ما حدث شيء كثير، ومنه ما لكثرة تكراره أصبح كالمواضع المشتركة أو المشهورات كما كانت تقول الفلاسفة العرب إن كل من له صلة بالناس شعر لا شك بضراوة الاحتقان الذي كانوا يعيشونه ومدى الضغينة المخشنة لقلوبهم على ما كانت العائلات المتنفذة تأتيه من أفعال تجمع إلى الجهل الخسّة وسوء التقدير لقد تفشى بينهم أنهم رعايا لا مواطنون وأن الوطن لم يعد وطنهم وإنما يعيشون فيه تفضلا ومنا. أمّا الحياة السياسية فكانت تنذر بأن الآتي أعتى وأمر وأن المسؤولية في الدولة أصبحت رهن النزوة ورهن ما يخطط في أركان القصر والمقصف المطلّ على البحر في جبل سيدي بوسعيد جهة الشمال وتذكّر كثير من الناس قول الشاعر عندما ضاق صدره بما فعله معاوية بن أبي سفيان بأمر السلطان فقال:«فأن تأتوا برملة أو بهندنبايعها أميرة مؤمنينا»هكذا كان شأن التونسيين جميعا ما عدا أولئك الذين كانوا يرتعون في ما فاء به عليهم الحاكم ولكنهم وإن تشجعوا وخرجوا من صمتهم في ما يدور بينهم من الأحاديث في الأماكن العمومية ومع من يثقون بهم، لم يكونوا قادرين على معرفة ما ستؤول إليه الأمور، وكان لكل واحد ولكل فئة وجماعة مسكنات أوجاع ومخففات ضغط تعينه على تحمّل الوضع.وكان ما كان وما كان أكبر من المأمول وأوسع مدى مما تاقت إليه النفوس والأكيد أن شيئا ما سمّه الصدفة أو سمّه سرّ الأسرار في بعض حركات التاريخ التي تحتجب فيها عن النظر والتدقيق المعاقد التي تنسج بين معطيات لا فعل لها ما دامت تفاريقَ وإذا بها تصبح هديرا صاخبا وموجا عاتيا وحركة لا رادّ لتقدمها ولا مكان للوقوف بينها وبين ما نحوه صوّبت. يذكرني هذا دائما بسؤال طرحه أحد الرفقة على أستاذنا في الطبيعيات في السنة الرابعة أو الخامسة من التعليم الثانوي عندما تطرّق إلى مكونات جسم الإنسان، هل أننا إن وضعنا هذه المكونات جنبا إلى جنب استقامت جسما مترابط الأجزاء متسق الحركة!

لكن الثورة من وجهة نظرنا لم تأت عن فراغ ولم تنشأ عن طفرة، فتاريخ منازعة السلطة في بلادنا تاريخ طويل نسبيا مقارنة بعمر الدولة الوطنية والتوق إلى الحرية والعدل ونبذ الظلم وصلف الحاكم وجبروته مطلب رافق تاريخ تونس الحديث والمعاصر عبّرت عنه الفئات الاجتماعية أشكالا مختلفة من التعبير بلغ أحيانا درجة المواجهة الصريحة بين سلطة النص والخطاب وخطاب السلطة.

لقد كان فضاء الجامعة الذي لم تستطع كل محاولات الاختراق تدجينه أو على الأقل تحييده مفتوحا على كل الاتجاهات والتيارات الطلابية التي لم تكن تجد خارجه منبرا لتقول رأيها لكن استأثرت به هذه الحركات إلى حد المبالغة والحق يقال، ذلك أن الحرية التي كانت تمنحهم إياها استعملت أحيانا لمنعها من أداء وظيفتها التي من أجلها كانت وتسخيرها للضغط على السلطة غير عابئين بحق أطراف أخرى منخرطة في هذا الفضاء، وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى كثير من التحليل والدرس.

كما كان فضاء الاتحاد العام التونسي للشغل بالنسبة إلى الشغالين المنخرطين فيه منبرا لمطالبهما لنقابية لا شك، ولكنه مجال آمن للتعبير عمّا يطمحون إليه من استحقاقات سياسية وتطلعات إلى حياة مدنية يحترم فيها القانون ويعترف فيها بالرأي المخالف والمناقض والمعادي. إنّ التحام النقابي بالسياسي في تونس بدأ في المنطلق واستمر ولعله سيستمرّ ما دام الناس يشعرون وقت تختلط السبل بالحاجة إلى من يحميهم ويحمي المهدّد من كيانهم، ولذلك فكل محاولة لحشر الاتحاد في المطلبية النقابية محاولة تتجاهل هذا المعطى الأساسي في تاريخ تونس.

أمّا الشكل الثالث من أشكال المنازعة فهو المعارضة السياسية الملتئمة في تنظيمات بعضها معترف به وإن على مضض وبعضها الآخر مقصي يعمل في الخفاء وهذا الشكل من النضال هو الأكثر عرضة للمضايقة والتعسف والقمع.

وفعلا أصيب الكثير منهم في أرزاقهم وحرياتهم بل والإقامة في غير أوطانهم لذلك كان الكثير منهم حاضرا يوم الرابع عشر من جانفي مساء في وسائل الإعلام باعتبارهم لما قدموا من تضحيات أولى من غيرهم بإحاطة ثورة وليدة لم تؤطرها حركة سياسية ولا تحدث باسمها مجلس للثورة.

أليست توجد أشكال أخرى للمعارضة؟ فماذا عن فكر الحداثة الذي نعرف أن له حضورا لافتا في تونس؟

نعم، وهو ما كان سيكون حديثي إثر ما ذكرت، فمفهوم المعارضة عندنا يقتصر في الغالب على المعارضة السياسية في مفهومها ا لتقليدي الضيّق، وهي معارضة في ما نقدر تقتصر، رغم جهدها في استرفاد كفاءات لصنع برنامج متكامل محيط بالمجالات التي تحتاجها حياة الناس في مجتمع نام أو يسير نحو النمو على السلطة التنفيذية باعتبارها موقع القرار الأهم ولذلك يكون عمل المعارضة الرصد والتعقّب واستحصال السقطات وضروب الزيغ عن الحياة السياسية السليمة بالرجوع إلى نماذجها الكبرى في العالم.

إلا أن هناك فعلا آخر لا تظهر نتائجه إلا على المدى المتوسط أو البعيد لأنه يؤثر في الأبنية الفكرية والتطورات الذهنية ويضع الواقع في دائرة تأثيره في جدلية مستمرة توضع فيها الأبنية التي تسربت إليه من محيطه ولغته ومنحدراته البعيدة وجها لوجه مع تجارب الآخرين وطرق فهمهم للأشياء والعالم فهما يختلف إن كلا وإن جزءا عمّا نشأ عليه وألِفه إنه التعليم متى انعتق من إسار الاتباع والتقليد وطمح إلى المعرفة ومناهج المعرفة في أقصى ما وصلت إليه في مواطن العلم ودوائر البحث.لقد فتحنا عيوننا ونحن في الجامعة طلبة في الآداب والعلوم الإنسانية على تحولات معرفية ومنهجية مهمة استطعنا بفضل ما اطلعنا أساتذتنا منها عليه أن نقيس البون الشاسع بين ما تعلمنا في الثانويات وما نحن مدعوون إلى تعلمه في الجامعة.

ثم سرعان ما اكتشفنا بالاطلاع المباشر على ما يكتبه الناس في اختصاصنا في مجتمعات أخرى أن على الجامعة أن تحث الخطى وأن تبذل جهدا مضاعفا حتى لا تبقى قافية وحتى ننتقل إلى المطلع ولما آلت إلينا مسؤولية التدريس حاولنا ما استطعنا أن نرسم تعليمنا منهجا ومواضيع ومنطلقات نظرية في صلب التحديث لما كان يوفره من قدرات على الفهم والتحليل وانتهاج سبل إلى المعرفة غير السبل التي كانت تنتهج كما حاولنا أن ندعم طلبتنا إلى تجاوز ظاهر ما يدرسون إلى الأسس الفكرية والفلسفية التي تقع من الحداثة موقع الأصل. لقد سمحت حركات التجديد في الشعر والأدب بزعزعة سلطة الماضي ونفضت عنه غبار التقديس الذي كان معطّلا لقيام علاقة سوية به، وكان تدريس تجارب هذا الأدب والشعر فرصة لطرح قضايا عديدة تتعلق بسلطة الماضي وهيمنة النموذج الذي أراد أن يرتهن كل فعل إبداعي ويرده إلى الائتلاف والنسج على المنوال، وكانت الكتابات عن الأدب التجريبي في أواسط الستينات تبحث عن مسالك لتعميق الصلة بين حياة الإنسان وأدبه حتى يكون ذلك لها عن مسالك لتعميق الصلة بين حياة الإنسان وأدبه حتى يكون ذلك الأدب مخيرا يكشف عن المعمّى المحتجب من بنية الإنسان العقلية والنفسية.

ولا زلنا نذكر ما كانت تنيره بعض وجهات النظر المتعلقة في الظاهر بمسائل محايدة كالعلوم اللغوية من نقاش بين الطلبة يصب رأسا في السياسي والإيديولوجي، فقول بعض علماء الأصوات بأن الصوت لا يستمد قيمته من ذاته وإنما من علاقته بغيره من الأصوات المنتسبة إلى نفس المنظومة كثيرا ما كان يدفع بالنقاش جهة الهوية وأنها إذن ليست جوهرا فردا وإنما هي علاقة أي أنها لا تتحدد إلا بالغير المخالف لنا ومن معاني ذلك أنها ليست تشكلا منتهيا ومنغلقا وإنما ديناميكية متواصلة التحول وإن حافظت على بعض الثوابت.

كما فهم الناس من خلال نظريات القراءة وتعدد مستوياتها في النص واختلاف الناس في ما يحققون من معناه نبههم إلى تراجع فكرة المعنى الواحد والحقيقة الواحدة فأدركوا أن القراءة أي قراءة هي تأويل ينتج من تحاور نص القارئ والنص المقروء وأنه لا معنى للبحث في النص عن مراد كاتبه وما قصد إليه منه فلا سلطة لصاحب النص على النص بإطلاق لأن اللغة ليست رهن إشارته بل إنها تقول على لسانه إذ يريد أن يقول بها.

إن خلخلة البنى الأدبية والثقافية المهيمنة وتنسيب الحقيقة وإعطاء القارئ المستهلك سلطة على النص أهم من سلطة كافية هي عمليات سياسية في العمق وحمدا لله أن لم يكن الحاكم متفطنا إلى هذه الأبعاد وإلا لفرض على الناس منهجا في الدرس وخطوطا حمراء في التأويل لا نتجاوزها.

نعتقد أن كل هذا ساهم في تكوين هذه الأجيال من الشباب التي حملت بكثير من السخاء والبذل أعباء الثورة ولا شك عندنا في أن أهم ما أتت عليه الثورة بعد الإتيان على الحاكم وحاشيته هو بعض سوء الظنّ في بعض الأوساط بالشباب وبأسلوب عيشه وحديثه واللغة المجراة في تلك الأحاديث، لذلك حق علينا الاعتذار له لأنه برهن عن حس مدني عميق استطاع به أن يكسر أعتى الديكتاتوريات وأن يحمي ثورته في الأسابيع العصيبة الأولى بالسهر على أمن المواطنين كل في حيه فألف تحية وألف شكر.

لو زدت مساهمة الخطابة الأدبية في التحديث شرحا؟

علاقة العرب بالحداثة علاقة يصعب على الناظر إليها من الخارج فهمها لما ينتابه من التردّد وعدم الاستقرار في القبول والرفض والسبب من وجهة نظرنا أن مجتمعاتنا تعيش الحداثة من غير أن تتوفر لها ثقافة الحداثة وفي غياب الشروط التاريخية والمعرفية التي تقوم منها مقام الأصل الجامع مهما اختلفت تجلياتها وتباينت تمظهراتها ولذلك تصادفك شرائح من المجتمع تتساءل عمّا يجمعها بشرائح أخرى من نفس ذلك المجتمع ممّا يحملك على القول بأن المجتمع مجرّد اصطلاح وهو في الحقيقة تجمهر لمجتمعات صغرى تختلف أنماط تفكيرها والعوالم التصورية الجامعة بينها وما يربط بينها لا يقل عما يفصل ويفرّق.

ثم إن السلطة السياسية عندنا لا تلتفت إلا لما قد يهدّد كيانها بصفة مباشرة وما عدا ذلك فقضايا لا تعنيها وإن كانت كما سبق أن ذكرنا تهددها على الأمد المتوسط والبعيد، ولذلك يتأكد لكل دارس للأوساط العربية سبق الشعر والأدب إلى التحديث دون أن يثير ذلك مشاكل كبرى والمعارك التي كانت تدور بين المجددين والمقلدين لا علم للساسة بهاوإنما هي جدل وصراع بين متعاطي الأدب ومبدعي الشعر والفن لا دخل للسياسي فيه وكذلك شأنه مع مؤسسات التعليم وما يمكن أن يدور داخلها من أفكار ودعوات إلى الأخذ بأسباب العصر وتجديد مناهج النظر والتفكير والانفتاح على ما في ثقافة الآخر وعلمه من مثيرات تجرئ على ما بذات اليد وتزهّد فيه ثم إن الخطاب الأدبي وهو يمارس حريته ويجرّب المسالك التي تقر به أكثر وشواغل مجتمعه وغلق به قائلوه مطامح سعيهم وتوقه إلى حياة يشعرون فيها بأنهم مواطنون تحترم ذواتهم وتساس أمورهم فيها بالقانون يجري على جميعهم بالطريقة نفسها.

هذا في ما حدث... فما الرأي في ما يحدث الآن؟

موضوعيا الوضع ليس هيّنا والتصرف فيه من أصعب ما يكون لا سيما ونحن نفتقر إلى خبرة المراحل الانتقالية وكيفية التعامل مع أوضاع من قبيل أوضاع ما بعد الثورة صعوبة المرحلة الانتقالية من أنها مجاز ومعبر يأتي من شيء قبل وينتهي إلى شيء بعد وهي لا شيء أو هو كل شيء. هي لا موجودة ولا معدومة أو هي موجودة في معنى معدومة ولذلك احتاج التعامل معها إلى صيغ وأساليب وتطورات تناسبها وملاءمة لوضعها الذي أشرنا إليه.فكيف تستطيع حكومة مواجهة مطلبية ملحّة وعاجلة حانقة ومشروعة ما إن ارتفع عنها غطاء المنع والقهر حتى عبّرت عن نفسها بأساليب رأينا تلاوينها منذ الخامس عشر من جانفي، وإمكانيات قليلة أو منعدمة بسبب حالة الشلل الوقتي للدورة الاقتصادية بسبب تلك المطلبية أحيانا؟

وكيف يمكن لحكومة أن توفر الشغل لطالبيه وأن تخرج عشرات الالاف من حاملي الشهائد من الوضع المهين والمشين الذي يعيشه بعضهم من زمن طويل والحال أن معدلات التنمية لا تسمح بذلك؟

يمكن أن نعدد الأمثلة وليس منها ما هو أقل صعوبة مما ذكرنا.الوضع ليس نزهة رائقة والمسؤولية ليست متعة وأنسا غريب أمر ذلك الوزير الذي لا أذكر اسمه ولكني سمعته في حديث معه في التلفزة يطلب من الناس أن يتركوه يستمتع!

الوضع دقيق ودقيق للغاية وهامش التصرّف فيه ضيّق ومنحسر إلى أبعد الحدود يتطلب من المسؤول أن يضع مصلحة تونس فوق كل اعتبار أن يسعى إلى الوفاق الوطني باعتباره شرطا لا بد منه لتذليل الصعوبات وتمهيد الطريق أمام أرجل الثورة الناعمة وعليه قبل هذا وذاك أن يعيش طقس عبور يحمله من إيطيقا الاعتقاد (Ethique de la conviction) إلى إيطيقا المسؤولية (Ethique de la responsabilité) والفرق بين السلوكين أو الأخلاقيتين كما جاء عند ماكس فيبر (Max weber) وعلماء الاجتماع والإناسة بعده يتمثل أساسا في موقف كل منهما مما يقول ومن مآل ما يقول فالأول يعتبر أن خطابه هو الحق لا حق سواه وأن تصوراته عن الأشياء والعالم هي الأشياء والعالم ذاته ولذلك تراه لا يأبه بردود فعل الناس تجاه ما يقول ولا يعبر اهتماما لما قد يصدر عن متلقي خطابه لأنه تعوّد على فضاء مغلق هو فضاء الاتباع متحصل الشرعية بالاعتقاد في دور وتسلسل لا ينتهي.

أما الثاني فأول ما إليه ينتبه ردود فعل من إليهم يتوجه بخطابه لأنهم طرف أساسي في عملية تبادل تقوم على تكافؤ العوالم والتصورات وهو على أُهبة دائما لتغيير ما يجب تغييره بموجب هذا الاعتراف بالآخر والانفتاح على عوالمه وتصوراته وبموجب إيمانه بأنه لا يمتلك الحقّ وأنى له ذلك والآراء والأفكار ليست من مجال الحقيقة ولو كانت كذلك لما أمكن التأثير فيها وتبديلها.

فكيف يتراءى الأمر؟

ليس هناك ما يدلّ على أن الحكومة منشغلة تمام الانشغال بهذه المرحلة الانتقالية الحساسة التي ليس لنا عنها تجربة في حياة الدولة التونسية فكثير من المسيرات تؤكد أن التفكير في ما بعد المرحلة الانتقالية مقدّم على الاهتمام بالحاضر الحارق، والرأي عندنا أنه لا إمكان لما بعد إن أخطأنا التعامل مع الراهن المعقد الغامض الذي يصعب التكهن بما قد يؤول إليه.

وعن هذا الاهتمام رشحت خيبة ظن عند شرائح اجتماعية عديدة لأن ضمان الحضور اليوم وغدا لا يؤشر على إيمان بالديمقراطية التي من أسسها التداول على السلطة، لا شك أن لكل تنظيم الحق في السعي إلى الفوز بالسلطة لكن بدون أن يجر ذلك إلى السيطرة على الإدارة بغير وجه حق وتقديم الولاء على الكفاءة، الكفاءة في المرحلة التي نحن فيها أهم بكثير من الولاء والعقل يقتضي رغم ما قد يكون تجشمه الرفاق من محن الإقلاع عن فكر الغنيمة.

ومن نتائج ما ذكر التداخل بين الحزب والدولة وهو المرض العضال الذي عانت منه بلدان كثيرة كبلدنا وكان سببا من أسباب ثورتنا لا جدال في آن التنظيم الحاصل على أكبر عدد من الأصوات يكون رئيسه جزءا من المشهد الشبابي لكن حذار من خلط الأوراق وتداخل الأمور فلرئيس حركة النهضة حضور شديد الوطأة على الناس أحيانا بتناقضات خطابه، وحرصه على فرض ولاءاته على البلاد والعباد، وبنفسه الغضبية التي تبقى دون مرتبة «اللوغس» إن تعلّق الأمر بالحديث عن تاريخ الدولة الوطنية وعن الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة فلئن كنا نفهم كرهه له وسعيه إلى النيل منه بتقديم أخطائه والسكوت عن أعماله فإننا نستغرب أن يقع ذلك بالطريقة التي اختارها وهي طريقة تضر بمتتبعها أكثر مما تضر بالمستهدف منها. وبمجانية الحق بل وتعمّد البناء على الباطل. إن ما قاله في الحلقات التلفزية المخصصة لسيرته، عن وضع العربية في تونس يدعو إلى الاستغراب إن لم نقل شيئا آخر وما قاله في جامع الزيتونة عن شطب الزيتونيين وتشريك المدرسين وتجويعهم أضغاث أحلام وخيلاء أوهام تتولد عندما ينفخ الحِقد في إخلاط البدن فتؤثر في حركات الإنسان وسلوكه وقد تصدى للردّ عليه شيوخ ساهموا في تأسيس التعليم في بلادنا وباحثون متمرسون في تاريخ التربية لا يتحدثون عن الهوى وإنما حديثهم منهج وأصول نظرية وتوثيق مضبوط دقيق لا يرجون منه إلا الحق الخالص.

وليس كل ما ذكرنا شيئا إذا قيس بموقف السلطة الحاكمة من العنف الذي تمارسه الجماعات السلفية المتطرّفة، بعضها كتب قبل ظهور الحركات التي تصنف في ما يسمى الإسلام السياسي وبعضها الآخر وهو أهم من القسم الأول بكثير في بداية الصدام العنيف والدموي بين السياسي والديني في الخمسينات والستينات وتسارع نسق التأليف بعد أحداث سبتمبر.

فمن أين نبدأ الجواب؟

سأحاول قدر الإمكان في خضم الاراء التي قيلت إن أعطيك رأيي الحاصل عن تجربة قراءة وتجربة حياة، فما دامت السلفية خطابا يتوسل باللغة وينشر دعوته بوسائل الإقناع المعهودة فلا ضير فإذا كانت في المجتمع فذة تحنّ لفقد تشعر به إلى أزمنة لا يمكن أن تستعاد إلا على سبيل المحاكاة والتمثيل فليسمح لها مجال الحلم والالتحام بالذهول عن السياق الحاضن بما إليه أنفسها تتوق. ضرب من الحنين إلى رحم الأم أو هي أسطورة العود الأبدي في صور شتى. وأساطير بلاد الرافدين التي بُنيت على النبع والمجرى فالنبع أصل وبدء وانطلاق لذلك يكون ماؤه صافيا زلالا والمجرى صيرورة والتباس بما يصادف الماء من مواد الأرض وتضاريسها إن التاريخ عند هؤلاء مجرى ليس في إمكانه المحافظة على صفاء النبع لذلك لا بد من الخروج منه عودا إلى بدء إن أردنا التقاط لحظة الصفاء المطلقة. لكن ينسى هؤلاء أن قدر الإنسان تاريخه وأنه لا يقبل في ملكوت السماوات إلا بعد الحساب لينال جزاءه عما فعل بتاريخه وفي تاريخه.

فاستجابة الشارع بالشكل الذي يراه الرائي كل يوم أمام بعض المساجد وفي الشاحنات العمومية واستباحة الحرم الجامعي بشكل محزن مخجل سمع به الناس في أرجاء المعمورة ويتصل بنا الزملاء والأصدقاء يستشعرون من هنا وهناك واستباحة أرزاق الناس وأموالهم كما وقع في الجنوب التونسي وفي بعض جهات الشمال الغربي أمر يدعو، خارج كل تهويل وبعيدا عن الخطاب الفجائعي المتشنج، إلى الحيرة بل إلى الريبة نعم لم يأت هؤلاء من القمر ولكنهم أتوا من عمق الفضائيات الجاهلة التي تفعل كل ما في وسعها للزجّ بهذه الأمة في الدرك الأسفل ولست استبعد أن تكون بعض الجهات التي لا تريد لهذه الأمة الخير تساهم في تمويلها، كما أتوا من أتون مضامير التدريب المنتشرة في بعض البلدان التي تحييهم في الموت وتزيّن لهم الشهادة، ومن واجب السلطة لكل أشكال العنف التي يمكن أن تؤثر في ثقافة المجتمع التي ألفها وتفقده من ثم توازنه بل تهدده بالانخرام والانحلال.

وأخيرا جاء موقف الحكومة الحازم على لسان السيد وزير الداخلية فاستبشر به الناس رغم تأخره وسبحان رب العزة لم نعد نسمع منذ ذلك الحين عنهم ولم نعد نصادفهم في الشارع كما لو كانوا رُفعوا إلى السماء أو غارت الأرض تحت أقدامهم!

بالمناسبة نريد أن نعرف رأيكم في السلفية أو في الخطاب السلفي؟

هذا سؤال حاولت أن تجيب عنه مئات المقالات والكتب في أغلب اللغات التي تتكلمها مجموعات بشرية مهمة أما إذا كان الخطاب هراوات وسيوفا مسلولة ودعوات إلى الجهاد والفتح فهذا عنف مادي لا تسمح به القوانين ولاتقول به الشرائع.

وتشترك هذه السلفية المدعوّة «جهادية» مع بقية السلفيات ولا سيما المسماة «دعوية» في أمور وتختلف عنها في أمور.تشترك معها ومع بقية الاتجاهات الإسلامية في عملية تحويل تدريجية للتديّن بإظهاره بعد إضمار، فلقد كان التديّن عند الفئات الاجتماعية على اختلافها قبل ظهور الاتجاهات الإسلامية المسيسة مدخلا منصهرا في كيان الإنسان حتى لكأنه جزء من طبيعته يمارسه كما يتنفس ويمشي ويطعم وقد استقر في أذهان الناس وثقافتهم أن التدين علاقة بين الخالق والمخلوق لأن الإنسان يمثل أمام ربه فردا ولا يحاسب الأعلى ما اقترفت يداه هو انظروا في لغتنا الدارجة واستصفوا منها كل ما يتعلق بهذه العلاقة فستجدون أنها علاقة رأسية أحادية ولم تكن لذلك التديّن أمارات تدل عليه عدا ما هو من التقاليد والعادات التونسية.

عملت الحركات الإسلامية على وسم التديّن وإظهاره ليصبح علامة سطحية فارقة تزرع بذور الفرقة في المجتمع وتذكرنا بعهود كان فيها غير المسلم في دار الإسلام مجبرا على حمل شارة مميزة ثم وقع الإلحاح على شارات الظهور والتميّز إلى أن أصبح الأمر استعراضا وفرجة وغربة أيضا عن عادات البلاد في اللباس والمظهر الخارجي، ويتأكد لديك الاستعراض عندما تصادفهم حانقين مزمجرين فتتذكر بعض مشاهد «الرسالة» للعقاد أو المسلسلات السخيفة عن تاريخ الإسلام والمسلمين.وتختلف عنها من جهة أخذهم أنفسهم بالجهاد في سبيل الله وتبريرهم كعنف يستعملونه بنيل هذا المقصد.

وما فاتهم أن الجهاد في منطلق الدعوة كان لنشرها بفتح أقصى ما يمكن من ديار الكفر وإدخالها تحت راية الإسلام وكان في ذلك للإسلام غنم كبير والجهاد والفتح بهذا المعنى أصبح شيئا تاريخيا وجغرافية الأديان ولا سيما الأديان التوحيدية ضبطت بصفة تكاد تكون نهائية منذ قرون ولا مجال لتبديلها اليوم.

وعوض أن يجاهدوا في سبيل الله بأن يأتوا بشبر من «دار الكفر» أو بالعمل على استرجاع القدس السليبة تراهم إيهاما بتواصل الجهاد ينعطفون على بلدانهم يكفرونها ويتهمونها بالتهم الكنسية الثلاث الذي ذكرها الأستاذ القدير حمادي بن جابالله في حديثه عنهم في نفس هذه الجريدة وهي: العنصرية والوثنية وفساد الأخلاق... ومن ثمّ يشرّعون أو يشرّع لهم السدنة من رجال الدين المرتزقين بإعادة فتح تونس ورد أهلها إلى الإسلام! لعبة طواحين الهواء وإجبار للمجتمعات أن تخرج لا من التاريخ فحسب بل ومن هامشه أيضا.

يرى البعض أن السلفية كفكر متشدد ومنغلق وافدة على مجتمع تونسي عُرف باعتداله ووسطيته ما رأيكم؟

واضح أن المجتمع التونسي طيلة تاريخه لم يعرف هذا النوع من التشدد في الدين والاستعداد لفرض المتصوّر بالعنف، ولا يعني هذا أن العلاقات بين رجال الدين إذا اختلفت نزعاتهم وأصول الاعتقاد التي يتبنونها كانت علاقات مسالمة لا عنف فيها لقد كان الأمر بين فرق تتنازع وتتصارع حول مسائل كلامية بعضها يخص الخالق وبعضها الاخر يخص المخلوق، ولم نسمع بفئة ادّعت أنها وحدها مسلمة وأنها إذن ترفع السيف في وجه الآخرين لحملهم على الإسلام أو على فهم ضيق له وتونس كما هو معلوم مالكية في الغالب لم تشتد فيها الصراعات التي أشرنا إليها كما اشتد في غيرها من البلدان.

والغريب أن ما يُسمّى بالسلفية الجهادية تضع بين قوسين تاريخ الإسلام في هذا البلد وعمل الأئمة الأجلاء من سحنون وأسد بن الفرات إلى الشيخ الطاهر بن عاشور فهؤلاء جميعا لم يتفطنوا إلى ما كان فيه أهلهم من ضلالة وكفر.

وأغرب مما ذكرنا أن ما تدعو إليه هذه السلفية لا وجود لأكثره في المتون الفقهية الأكثر تشدّدا، في تاريخ الفقه الإسلامي. لأن تلك المتون المتشددة طوّعها الذين يعيشون على هدي لتلائم مقتضيات الحياة المتطورة وما يجد فيها من حاجات تدعو إلى ضرورة المناسبة بين النص وبين هذا الطارئ الوليد. ولذلك لا يترددون في إعادة صياغة تعريفها وضبط مقاصدها إلى الدرجة التي يتساءل فيها الواحد منا عن العلاقة بين ما نراه في بلادنا وبين السلفية في مهادها.

ومن المفيد أن نشير هنا إلى ندوة عقدت بجامعة الإمام محمد بن سعود في 27122011 الموافق ل2 صفر 1433ه موضوعها «السلفية منهج شرعي ومطلب وطني افتتحها ولي العهد بكلمة أشار فيها إلى وجوه الانحراف التي طالت السلفية وإلى ما ارتكبها أدعياؤها من الزيغ والخروج عن الأصول بتحميل المذهب «زورا وبهتانا» ما لا يحتمل من كذب وأباطيل ومفاهيم مغلوطة مؤكدا أنه منهج ديني شرعي كما أنه دنيوي يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويدعو إلى «الأخذ بأسباب الرقي والتقدم والدعوة إلى التعايش السلمي مع الاخرين واحترام حقوقهم».

ولا يتمالك المرء بعد قراءة هذا النص الذي قاله ولي العهد الذي يجمع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية إلا أن يتساءل عن مراجع السلفية في بلادنا. فالسلفية في موطن السلفية ليست انقطاعا عن التاريخ ورجوعا إلى زمن لا يمكن أن يستعاد وليست دعوة إلى قتل الاخرين والاعتداء على مقدساتهم ومواطن عبادتهم فمن أين أتى هذا الذي نسمع عنه ونقرأ؟

لكن الخطاب الأدبي العربي القديم يبقى مرجعا ونموذجا فلماذا هذا الفصل والتمييز بين الخطابين الأدبي والديني العربيين القديمين؟

السؤال يبدو في الظاهر مشروعا ولكن التقريب بين الخطابين لا يستقيم لأنهما لا يتحركان في نفس الدائرة ولا يقومان بنفس الوظيفة مع أن الخطاب الأدبي العربي القديم كما قلت لم يبق مرجعا ونموذجا في كل ما يبدعه الكتّاب والشعراء اليوم ولو تطور الخطاب الديني بالنسق الذي تطور به الخطاب الأدبي عندنا لارتفعت عنا أكثر المشاكل التي تتخبط فيها اليوم.

النص الأدبي يتحرك في دائرة الثقافة العالمة والذين يصلون إليه من غير المتعلمين عدد أقل من القليل ثم إن وظيفته الأساسية وظيفة جمالية تتقصد الامتاع وتليين العريكة وفتح السخائم أي أن فعله فعل السحر قادر على أن ينقل الناس من حال إلى حال وهو لذلك خطاب صعب التوظيف في غير ما جعل له.


أما الدين فيمسّ جميع الناس وإن كان كل واحد منهم يفهم أو يعيشه بما تسمح له إمكانياته العقلية والاجتماعية والثقافية ثم إن وظيفته هي الحرص على أن تستمر علاقة الإنسان بالله على نفس الوتيرة لا يصيبها الوهن ولا يعتريها الملل والضعف وكذلك من وظائفه طمأنة المؤمنين وتسهيل العبور عليهم من عالم الشهادة إلى عالم الغيب.أنت في الأدب تتكلم عن حاجات ليس الناس إزاءها سواسية تحمل على الكمالي وترف العيش وفي الدين تتكلّم عن الواحد الأحد الذي تؤول إليه المصائر جميعها فتنال جزاءها على قدر سعيها إلى مرضاته واتباعه صراطه المستقيم، ولذلك فهو خطاب قابل للتوظيف واختلاف القراءات.

انظر كيف أن رجال الدين لا يهمهم ما يدور بين متعاطي الأدب من معرك وإن كانت بعض تجارب الإبداع تسعى إلى دك المنظومة القديمة وتقويض أركانها وهم على العكس من ذلك يتربصون بكل من تحدثه نفسه بالاجتهاد في مسألة من المسائل المتعلقة بالقرآن بل بعلوم القرآن أحيانا.فليس من الغريب والحال ما ذكرنا أن يكون البون بين حداثة الأدب وحداثة المجالات الأخرى بونا شاسعا.أليس من عجائب الأمور أن يكون البعد بين الأطراف في البلد الواحد كالبعد بين الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد وزعيم السلفية الجهادية المتحدث باسمها.

من هو حمّادي صمّود؟
من مواليد تونس في 25 جوان 1947 ، متزوج وأب لابنين.
حاصل على دكتورا دولة في اللغة والآداب العربية بكلية الآداب بتونس سنة 1980 حول:»التفكير البلاغي أسسه وتطوّره إلى القرن السادس للهجرة ، وحاصل أيضا على جائزة رئيس الجمهورية في شهادة التبريز في اللغة والآداب العربية (سنة 1972) وشهادة الإجازة في الدراسات العربية (سنة 1968).

وهو أستاذ بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة (متقاعد منذ أكتوبر 2008) وأستاذ الجامعات الفرنسيّة 1981 1984 1995 ورئيس وحدة البحث في تحليل الخطاب.

وللدكتور صمّود عدد من المنشورات باللغة العربية منها التفكير البلاغي أسسه وتطوره إلى القرن السادس للهجرة والوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة (1988) وفي نظرية الأدب عند العرب (1995) ومن تجليات الخطاب الأدبي قضايا نظرية (1999) وقضايا تطبيقية ( 1999) ومن تجليات الخطاب البلاغي (1999) وبلاغة الهزل وقضية الأجناس الأدبيّة عند الجاحظ (2002) وبلاغة الانتصار(2005).
كما له عدد من المقالات منشورة في دوريات ومجلات أكاديميّة بالفرنسيّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.