كيف ينظر الفنانون والمثقفون إلى المهرجانات الصيفية في الجهات وماهو حكمهم عليها وكيف يمكن إصلاحها أو إيجاد بديل لها يكون في مستوى المتغيرات الحاصلة في البلاد بعد الثورة ؟ أسئلة طرحناها على عدد من الفنانين والمثقفين فكانت الآراء التالية. المسرحي حمادي المزّي : المهرجانات الجهوية تتّسم ب «المعايرة»
الثورة، جاءت لتدعيم بعض المكتسبات التي تحققت منذ الاستقلال، ومن هذه المكتسبات اقرار ديمقراطية الثقافة، ولا يمكن الحديث عن هذا الاقرار الا بتكريس فكرة أو مبدإ اللامركزية الثقافية.
لذلك شاهدنا منذ البداية مهرجانات ذات صيت عربي وعالمي مثل مهرجان طبرقة ومهرجان بلاريجيا وكذلك مهرجانات دقّة والمنستير والحمامات وحلق الوادي... الى غير ذلك.
وقد تطوّر هذا المفهوم ليعمّ مختلف مناطق البلاد سواء في مستوى الولايات أو في مستوى المعتمديات وأصبحنا نلاحظ أن لكل جهة مهرجانها، لكن الخلل القائم في هذه المهرجانات هو ما تتّسم به بما يكمن تسميته «المعايرة» أي أنها مهرجانات تتشابه في برمجتها وفي نشاطها، وهذا المفهوم يخلّ بالبعد الثقافي، وبتحفيز الذائقة الجماهيرية.
نحن ندعو من موقعنا أن تسترجع هذه المهرجانات مكانتها ببرامج خصوصية، كالحديث عن مهرجان الجاز بطبرقة والحديث عن الحمامات بالنسبة للمسرح والحديث عن الجمّ بالنسبة للموسيقى الكلاسيكية وأن تسترجع المنستير مهرجانها المغاربي للمسرح، وكذلك قربة بنشاطها المسرحي الموجّه للهواة، مع تدعيم جانب التكوين من خلال الورشات، وأن تكون البرامج في المهرجانات متوازنة أي ليس الفن الشعبي على حساب التعبيرات الاخرى.
وعلى المهرجانات أن تبرمج المسرح وأن تدعّمه انطلاقا من ميزانيتها الخاصة لا فقط العروض المدعومة من وزارة الثقافة، وهذه عقلية يجب القضاء عليها نهائيا كما يجب القضاء على تلك العقلية التي تكرّس منطق «المسرح لا يقبل عليه الجمهور في الصيف» وهذا دور الوزارة في رسم استراتيجية جديدة للنشاط الثقافي في المهرجانات.
الفنان محمد الجبالي : الإشكالية في البرمجة والبنية التحتية وليست في المهرجانات
في الحقيقة، وانطلاقا من تجربتي الشخصية سواء مع الفرقة القومية أو مع «زخارف عربية» اكتشفت أن الجمهور في الجهات يحب التجارب الفنية المتنوعة. وبقيت بذهني عديد الحفلات الناجحة فنيا وجماهيريا بمسارح صغيرة في عديد الجهات ببلادنا.
بقي أن الإشكال ليس في المهرجانات الجهوية في حد ذاتها وإنما الإشكال حسب رأيي في برمجة هذه المهرجانات التي تركز كثيرا على الفن الشعبي رغم أنني لست ضده بيد أنه من الضروري أن تكون برمجة هذه المهرجانات متوازنة تستجيب لأغلب الأذواق.
وعلى صعيد متصل ثمة إشكال آخر يتمثل في البنية التحتية أو الأساسية فخلال مسيرتي حضرت حفلات ببعض المهرجانات بالجهات تقام وتقدم بالمدارس الابتدائية. هذا المعطى ليس ذنب الجمهور وليس ذنب الفنان أيضا فالأول من حقه أن يشاهد فنانين بلاده، والثاني (أي الفنان) من حقه أن يعمل في ظروف جيدة لذلك نأمل أن يقع بناء مسرح محترم على الأقل في كل مركز ولاية لأن هذا يتلاءم وما ننادي به منذ سنوات أي اللامركزية الثقافية والفنية وأعتقد أن هذا الأمر ليس صعبا، فكما ركزنا الملاعب الرياضية وهي ضرورية طبعا يمكن أن نركز مسارح في كل ولايات الجمهورية.
د. عبد القادر الجديدي : التنمية الثقافية الجهوية ليست عصا الأعمى !
الحمد للّه أن أمور الثقافة لم تتغيّر وذلك منذ ولاية الأستاذ الشاذلي القليبي، والحمد للّه أن «الطبّال والزّكرة» لا يزالان يمثلان العمود الفقري وقوام التكدّي الحكومي في المجال الثقافي منذ نشأتها. واعتبرت المهرجانات الصيفية رابطا وهميا مع التنمية ويتمّ ذلك بإعطاء تمويلات من ملك الشعب لفرق مختصّة في التهريج، حتى يقال إن في ذلك عنصرا تنمويا جهويا لا يستطيع أحد أن ينكره، في حين أن العملية إيهام، وتوهّم، وكذب تنموي ولسنا ندري ما الذي يستفيد به سكّان تالة مثلا عندما يحضرون حفلا حكوميا تافها في قالب مهرجان وهو في الحقيقة تهريج سياسي فاضح لا يخدم لا الثقافة، ولا الجهة ولا الشباب.
هل يتصوّر التونسي اليوم أن المهرجانات الجهوية تثقّفه وتهدّئ من روعه وتسلّيه وتخفّف عليه آلام يومه.. وهو الذي أصبح لا يقوى على جلب قوت أولاده؟! شكرا لوزارة الثقافة التي حافظت على «الدمغجة» التاريخية في مجال المهرجانات الصيفية، والتي لا يمكن أن نسمّيها مهرجانات تنموية جهوية، وهنيئا ل«العرابنية» حتى يحصلوا على سند مالي مهمّ لن ينال منه أي مواطن يوما أيّ فائدة.
كنت أتمنّى ونحن في هذا الظرف العصيب أن تقترح وزارة الثقافة على جميع الفرق الموسيقية الشعبية والأكاديمية، أن تقدّم عروضها مجانا، وهو أضعف ما يمكن أن يقدّمه هؤلاء لأبناء الوطن، وتكون بمثابة لبنة أولى في مجال التنمية الاجتماعية، أما أن نشجّع حليمة على العودة الى عادتها القديمة، فهذا يمثل ذنبا في حق تونس، وفي حق الجهات المحرومة وحتى يكون كلامي لا غبار عليه فإنني سأضرب لكم مثل إبنة الباي التي عندما سمعت بأن الشعب ثار على الظلم والزيادة في الجباية، في وقت أنهكت فيه الفلاحة والزراعة وأصبح الجياع بالملايين، خاطبت الباي (والدها) وهي متعجّبة، قائلة «علاش ما يكلوش زريقة بالزيت» وهي لا تعلم أن هذه الأكلة لا يعرفها الشعب ولا يستطيع توفيرها لأن ثمنها باهظ جدّا.
أما عن دعوة نجوم الشرق العربي لإحياء حفلات بتونس والحمامات فلست أدري ما هي الجدوى من دعوتهم الى إحياء حفلات في وطننا العزيز الذي هو ليس في حاجة مطلقا الى مثل هذه السّهرات.
أما التنمية الثقافية الحقيقية فهي ليست في مثل هذا النوع من التهريج والتطبيل والتزمير بل تكمن في الأخذ بيد شباب تونس، في جميع المجالات انطلاقا من إيجاد شغل للعاطلين عن العمل يمكّنهم من الشعور الحقيقي بالمواطنة لرفع رؤوسهم ويعشرهم بأن لهم الحق في كل ذرّة من هذا الوطن العزيز.
والتنمية الثقافية الجهوية لا يمكن أن تصدر عن وزارة الثقافة من العاصمة بل لا بدّ أن يجسّدها شباب الجهات بميزانية جهوية تسهر بالأساس على إيجاد البُنى الأساسية لكل عمل ثقافي مثل مسارح الهواء الطلق، مقرّات وقاعات لنوادي السينما، والكتاب، وتعليم موسيقى الجهات وما يتبع ذلك من مؤسسات اقتصادية، وبالتالي لا يمكن أن نسمي المهرجانات الصيفية الجهوية عاملا مهمّا من عوامل التنمية الجهوية، وهذا يجسّد اللامركزية التي ندعو إليها جميعا، وهي بالفعل ثقافية بالأساس استنادا الى التحديد الانتروبولويجي لمفهوم الثقافة.
الجهات ليست في حاجة الى استيراد منشطين وموسيقيين وممثلين من خارج جهاتهم بل هي في حاجة الى دعم النوادي المسرحية والفرق الجهوية وكورالات الأطفال والموسيقى الأندلسية والموسيقى الشعبية الجهوية.