ما بين هذه وتلك يوجد بون شاسع وهوة سحيقة فالنزوات السياسية تولد في اليوم آلاف المرات وتخامر الأفراد والمجموعات في كل دقيقة وثانية وتدغدغ قادة الرأي العام وأصحاب التجارب السياسية في كل الأزمنة والأوقات لاسيما في ظل مناخ الحريات السياسية الذي تكرّم به علينا شابات تونس وشبابها بما صنعوه بالنظام القديم منذ 17 ديسمبر 2010 وإلى اليوم. «حزب حركة نداء تونس»، حزب بدأ في شكل نزوة سياسية عابرة لدى بعض الساسة المخضرمين ولدى بعض صناّع الرأي العام الجدد، وبعد نقاش طويل وتجاذب أفكار وصراع زعامات وانقسامات ودخول البعض ومغادرة البعض الآخر في ماراتون وصفناه سابقا بأنه شبيه بالمسلسلات المكسيكية لنزوعه إلى أسلوب التشويق، انفرج الكرب أخيرا على أصحابه وأُعلن عن المولود السياسي الجديد وعن تركيبة هيئته السياسية وعن المبادئ التي التقى حولها الجماعة دون أدنى خلاف حول زعيمه وقائده الملهم فهل إن ذلك كاف ليستقيم حال الحزب الجديد ويتحول إلى حركة جماهيرية قادرة على إحداث التوازن السياسي المختل وفق النزوة السياسية لأصحابه أم إن عوائق هيكلية حقيقية تحول دون تحقيق ذلك؟
لا أريد أن أقلل من التجربة السياسية العميقة لجل عناصر الفريق المؤسس ومعرفة بعضهم بالعمل السياسي ككل والعمل الحزبي على وجه الخصوص لكني ألحظ منذ البداية ضعفا في الخبرة الحزبية على الرغم من قدوم بعض المؤسسين من أحزاب مارست الشأن الحزبي منذ عشرات السنين. نعم لقد مارسوا العمل السياسي والحزبي لكنهم لم يمارسوا البتة العمل الجماهيري الواسع اللصيق بعامة الناس والمترسب في أصغر خلايا المجتمع. سيجيبني البعض بأن خبرة بعضهم في الحزب الدستوري الحر أو الاشتراكي أو التجمع أو حتى الشيوعي كانت كبيرة وأنا أجيب بأن العمل الحزبي الدستوري لم يكن اختياريا أو تطوعيا في مناخ الحرية وإنما كان لأسباب انتهازية وأخرى ناتجة عن القهر والقمع والتسلط إلا ما ندر منه زمن التأسيس الأول أما النشاط الحزبي الشيوعي فقد كان نخبويا بامتياز.
لا خبرة للجماعة في العمل الحزبي وإنما هم يمتلكون وعيا مزيفا يعتقدون من خلاله أنهم سينشئون القطب الكبير والحركة العملاقة. كان عليهم أن يسألوا أنفسهم عن رقم حزبهم في قائمة الأحزاب التونسية قديمها وحديثها. والإجابة ستكون بسيطة وغير مضنية لأن الكل يعرف أن عدد الأحزاب قد جاوز المائة والعشرين. سيقول البعض الآخر إن حزبنا سيكون مختلفا عليها جميعا، ونجيب بأن الأحزاب تختلف بعضها عن بعض في مستويين:
-المستوى الأول هو القاعدة الشعبية والجماهيرية التي بموجبها نفهم مدى جماهيرية أي حزب أو نخبويته. وكافة المؤشرات والأدلة تشير إلى أن «نداء تونس» ليس إلا رقما في عالم النخبة السياسية لا أكثر وأنه لا يوجد ما يدل على أنه يمتلك قاعدة شعبية عريضة وأن الرقم الذي أعطاه أحدهم من وجود 130 ألف من المناصرين ليس إلا من باب الدعاية السياسية والإعلامية ومع ذلك يمكن أن نصدّقه إذا هو ترجم ذلك في اجتماعات جماهيرية وشعبية في الولايات والمعتمديات والقرى والأرياف وخاصة في الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية. ويمكن أن نصدقه أيضا إذا هو ترجم ذلك العدد الكبير من المنخرطين والأنصار الذي تحلم به أحزاب سياسية عريقة في الديمقراطيات العريقة في بلدان عديدة إلى مقرات وأمكنة للقاء الأنصار يترجمون فيها فعلهم السياسي اليومي ويلتقون قياداتهم في عمل دؤوب لا يتوقف أبدا فالامتداد الشعبي هو سمة لا غنى عنها في مدى جماهيرية أي حزب سياسي. ولكن يبدو أن الرقم قد سقط من إحصائيات الآلة الحزبية لما قبل 14 جانفي وتلقفه جماعة النداء دون أن يتثبتوا من حقيقته. وكل ذلك يقودنا إلى نتيجة هامة وهو أن حزب نداء تونس قد انطلق بنفس الأسلوب الذي تنشأ من خلاله أحزاب النخب وكان عليه أن يستوي ماشيا على قدميه فيشكل الأنصار في الجهات والقرى والأرياف والمدن ثم يتم الإعلان عن ذلك عبر قيادة تمثل تلك الامتدادات وحينها فقط يستحق اسم الحركة السياسية الشعبية والجماهيرية الكبرى والعملاقة.
المستوى الثاني هو مبادئ الحزب المتمثلة في النقاط الكبرى التي أعلنها زعيمه يوم 16 المنقضي، فهذه النقاط لا تتضمن نقطة واحدة تحتوي تجديدا أو رؤية مختلفة فالجميع يدرك أن الحفاظ على الدولة أمر مفروغ منه والكل يعلم أن الفصل الأول من الدستور القديم هو محل اتفاق من قبل الفرقاء السياسيين وكذلك مجلة الأحوال الشخصية. فكل ما ورد من مبادئ هو موجود في أفكار وأيديولوجيات وحتى في برامج أحزاب سياسية كثيرة لم يختلف عنها حزب نداء تونس في شيء إذا ما استثنينا وجود الباجي قائد السبسي على رأس هذا الحزب ورغبته ورغبة فريقه في أن يكون على رأسها جميعا أو على رأس جزء كبير منها.
لقد استعاض الوزير الأول السابق عن ضعف مبادئ حزبه وانعدام أي جديد فيها وعن التصورات الحقيقية القابلة للتطبيق وعن برنامج انتظره الفاعلون السياسيون منذ أن أعلن عن مبادرته قبل أشهر خلت ولم يأت بسبب استنزاف النقاشات في قضايات نخبوية وذاتية متعلقة بالمناصب والقيادات كما يحدث في جل الأحزاب السياسية منذ 14 جانفي وإلى اليوم، استعاض عن البرنامج المنتظر الذي لم يأت، بنوع من المسرحة للمشهد السياسي تقاسم أدوارها كل من المتفرج مع من يعتلي الركح، وليعذرني السيد الوزير الأول السابق وقادة الحزب الجديد في هذا التشبيه فالقهقهات العالية الصوت والضحك إلى حد البكاء والتصفيق اللامحدود الذي كان يستجيب «لسكاتشات سياسية» ولنكت وأمثلة شعبية تتخللها بعض أساطير الساسة الأولين، حتى إن البعض شبه الخطاب بأسلوب «الوان مان شو»، أكثر منه استجابة لإعلان عن حزب جديد يتسم بالجدية المطلوبة. ما كان للسيد الوزير الأول أن يضع نفسه في موضع المستهزئ بهذا والمتهكم على ذاك و«المُعري» لآخر على حد تعبيره، وما كان له أن يعاير أي كان أو أن يتهجم عليه خاصة في ظل في حضور جمهور ينتمي في أغلبه وليس كله إلى العائلة الدستورية والتجمعية القديمة لا يملك إلا أن يزيّن له المشهد. ما كان لك أن تنصب نفسك ضامنا وحيدا لبقاء الدولة واستمراريتها فلقد انتحل تلك الصفة من سبقوك وها هم قد ذهبوا وبقيت الدولة. ما كان لك أيها السيد الوزير الأول أن تنصب نفسك غريما لأي كان وأنت تدعو إلى توحيد التونسيين.
من سيصدقك موحدا لهم وأنت تهاجم قسما من السكان لاختلاف رؤيتهم السياسية مع رؤيتك ولاختلاف تصورهم للإسلام عما تروج له؟ من سيصدق بأنك تدافع عن الإسلام أصلا مهما حفظت من آيات قرآنية ومن أحاديث نبوية واستثمرتها في خطبك وخطاباتك وأنت الذي لم تقل كلمة واحدة في الإسلام يوم أن كان في حاجة إليها. ومن سيصدق أحد أعضادك في انتسابه إلى التيار القومي والعروبي وأنتم الذين لم تدافعوا يوما عن العروبة وعن القومية العربية في هذا البلد ولقد كان بعض القوميين والعروبيين أكبر ضحايا نظامكم الذي أسستموه مع بورقيبة واستمر مع نظام بن علي الذي لم تقولوا فيه كلمة واحدة استجابة لغرور بعض أنصاركم على عكس تمجيدكم لبورقيبة. لقد ذهبت أيها السيد الوزير الأول وأيها السادة المناصرون لحزب نداء تونس أيام «يحيا بورقيبا» و«الله واحد وبن علي ما كيفو حد» ولن تعود إلا في شكل مهزلة أو هكذا هو التاريخ أو هكذا بدا لي الشعار الجديد « يا باجي».
نهاية لا بد من تذكير جماعة نداء تونس بأن امتلاك المال وحده أو حتى وهو مجتمع مع النفوذ الإعلامي الذي يسند ظهر الحزب الجديد وقد برز في عملية استعراضية تم بموجبها تم نقل خطاب الوزير الأول السابق كاملا على شاشات إحدى الفضائيات الخاصة وكأنه رئيس دولة يتكلم والحال أن خطاب رئيس الدولة عند التولي من أعلى منبر المجلس التأسيسي لم يقع نقله، لا يمكن أن يصنع قوة جماهيرية حقيقية يكون لها تأثير يذكر في العملية السياسية فدرس التأسيسي لا يزال حاضرا في الأذهان.