عرف المشهد السياسي في الفترة الأخيرة عودة شيوخ السياسية للظهور والإدلاء بدلوهم في العديد من القضايا المصيرية اضافة الى تراشقهم بالتهم. فهل أن عودتهم فرضها الفراغ أم رغبة منهم في استرجاع ماض ليس بالبعيد وتصفية حسابات قديمة بينهم؟ الوزير الأول في الحكومة الانتقالية الأولى السيد الباجي قايد السبسي من مواليد 1926 عاد بقوة للساحة السياسية من خلال تكوين حزب جديد هو «حركة نداء تونس» هذه العودة استفزت السيد أحمد بن صالح وهو كذلك من مواليد 1926 وقال إن نداء تونس هو خيانة للثورة وجريمة في حقها وانقلاب على الشرعية ومن شانها أن تزيد في تعقيد الوضع وتأجيج العنف. لكن الباجي رد الفعل بعنف وطالب من أحمد بن صالح تذكر ماضيه وما فعله في السابق قبل ان يحكم على المبادرة وهو اتهام رفضه هذا الأخير على أعمدة الشروق يوم 23 جوان الجاري قائلا «أثق في التاريخ والتاريخ يثبت كل كلمة قلتها في شأن الباجي».
وبلغت درجة الاحتقان بين الرجلين هذا الأسبوع أقصاها عندما صرّح بن صالح بأنّ الباجي عدوّ للثورة ان لم يكن زعيما لثورة مضادة تعيشها البلاد حاليا ، وهو الأمر الّذي استهجنه الباجي مؤكّدا أن على غريمه العودة إلى قراءة الماضي بعقلانيّة مشيرا إلى أنّ عودته إلى النشاط السياسي تحمل أهدافا نبيلة في المساعدة على تحقيق الانتقال الديمقراطي ولا تحمل أيّ نوايا سيّئة أو مطامح شخصيّة أو ذاتية.
ويواصل السيّد الباجي قائد السبسي عمله السياسي غير مكترث بما يروّج حوله عاقدا العزم على تأسيس حزب «حركة نداء تونس» ويتطلّع إلى أن يكون لهذا الحزب دور سياسي بارز خلال المحطات السياسيّة والانتخابيّة القادمة.
كما اعترض السيد الطاهر بالخوجة على عودة الباجي قايد السبسي للنشاط الحزبي واعتبر عودة جيل بورقيبة مضيعة للوقت قائلا «لن تنفع النوايا الحسنة للباجي البلاد في شيء» وأشار الى ان الباجي يريد تعديل المشهد السياسي من خارج المجلس التأسيسي ومن غير الممكن حسب رايه ارجاع التجمع من تحت غطاء البورقيبية واعتماد بورقيبة كأصل تجاري وفي ما يخص عودته للنشاط السايسي قال «أرفض الدخول في اللعبة السياسية مع أحفادي» هذا الموقف رد عليه السبسي كذلك واعتبر مساهمة بالخوجة في الماضي والحاضر مضيعة للوقت. لكن بالخوجة قال «اعتدنا على زلات الباجي وما بالطبع لا يتغير».
اسم آخر ساهمت الثورة في عودته من جديد وهو السيد أحمد المستيري وهو الآخر من مواليد 1925 ومؤسس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وتقلد عديد المناصب الوزارية في بداية الاستقلال .كان من بين الأسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية بعد انتخابات 23 أكتوبر الماضي وأدلى هو الأخير بدلوه في ملف الدستور الجديد ومبادئ الديمقراطية الصحيحة المرتكزة حسب رأيه على حق الاختلاف واحترام المعتقدات الشخصية والمساواة.
ومن نفس الجيل تقريبا مازال السيد مصطفى الفيلالي حاضرا في عديد المحطات السياسية والحزبية آخرها الاعلان عن تكوين حزب نداء تونس مما يعني متانة العلاقة بينه وبين السبسي وهو من بين الأقلية المنتمية لجيل السبسي والمساندة له ولو بالصمت وعدم «وضع العصا في العجلة» على حد تعبير الباجي . فلماذا كل هذا السجال والصراع وماذا يريد كبار الساسة في تونس؟ وأي مثال سيمررونه للساسة الجدد ؟
التاريخ وراءهم
بقطع النظر عن مدى نجاح تجاربهم السابقة والسلبيات التي قد تكون رافقتها يختزن شيوخ السياسة في تونس تجربة كبرى تعود الى فترة الاستعمار وخاصة الفترة الأولى للاستقلال. فالسيد الباجي قايد السبسي تقلد عدة مسؤوليات بين 1963 و1991 فقد عين بداية من 1963 مديرا بوزارة الداخلية ثم وزيرا للداخلية سنة 1965 قبل أن يقع رفته من الحزب وينضم الى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين لكنه عاد الى الحكومة سنة 1980 كوزير معتمد لدى الوزير الاول ثم وزير للخارجية كما تولى رئاسة مجلس النواب من 1990 الى 1991 وعاد من جديد بعد الثورة في فيفري 2011 كوزير أول الى غاية ديسمبر 2011.
السيد أحمد المستيري هو الآخر من جيل الباجي قايد السبسي اذ شغل منصب وزير للعدل سنة 1954 ثم وزير للمالية والتجارة وعين سفيرا في عدة دول بين 1960 و 1966 قبل ان يتولى وزارة الدفاع . هو الآخر أطرد من الحزب الدستوري ثم عاد كوزير للداخلية . وبعد ان تم رفته من الحزب ومن البرلمان اسس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين غير انه تعرض للايقاف والسجن سنة 1986 عندما عارض العدوان الامريكي على ليييا آنذاك.
أما أحمد بن صالح فقد انتخب عضوا بالمجلس القومي التاسيسي سنة 1956 ودخل الحكومة كوزير للصحة ثم وزير للاقتصاد والتعليم لكن بورقيبة عزله بعد تجربة التعاضد واتهم بالخيانة العظمى وصدر ضده حكما بالسجن لمدة 10 سنوات غير انه تمكن من الهروب الى الجزائر سنة 1973 واسس من منفاه حركة الوحدة الشعبية ورجع بصفة نهائية الى تونس سنة 2000 بعد عودة أولى قصيرة من 1988 الى 1990 جوبه خلالها برفض اي نشاط لحركته.كما أنّ السيد مصطفى الفيلالي يعتبر اول وزير للفلاحة بعد الاستقلال اضافة الى نشاطه الحزبي ومساهماته الفكرية والأدبية.
تجربة كبيرة في ممارسة السلطة لأكثر من خمسين سنة قد تحمل عديد النقائص والتجاوزات لكنها تمثل منطلقا للساسة الجدد لعدم السقوط في نفس المهاترات والصراعات التي مازالت آثارها الى اليوم من خلال التصريحات والتصريحات المضادة وهي كذلك قريبة مما نشاهده في الساحة السياسية بعد الثورة لجيل تنقصه التجربة الميدانية رغم ما يحتويه من نضالات في مواجهة أعتى الديكتاتوريات التي قد يكون لشيوخ السياسة دور في تأصيلها في مجتمعنا.
مع الاشارة الى ان بعض القدماء السياسيين خيروا البقاء بعيدا عن الاضواء مع المشاركة بصفة غير مباشرة في الحياة السياسية وإبداء آرائهم حول كبرى الملفات.