فاجأت الثورة في تونس لا عقول المثقفين فحسب بل ايضا بنية عقلانية عربية سائدة لم يصل سقف أهدافها الى احداث نقلة نوعية في السياسة والمجتمع والثقافة. فما تطمح اليه هو انجاز اصلاحات لا تخرج عن النظام القائم. لقد فوجئ المثقفون ان فعل التغيير الاجتماعي تم انجازه من قبل البسطاء وان عليهم ان يهرولوا لاهثين ليدركوا موجة التغيير. هل كان المثقف في مستوى الحدث؟ هل ان لحظة الذهول عند حدوث الزلزال الاجتماعي هي التي تفسر الفراغ والخلل الثقافي في تونس ما بعد الثورة؟ وبان السمة الاساسية لثورة تونس هي غياب ارهاصات لهذا التغيير الثقافي امام شلل يكاد يكون كليا لفعل الابداع والخلق والتجديد في الشعر والادب والمسرح والغناء..... الخ فإننا نكون فعلا امام ازمة بديل ثقافي لثورة حدثت فجأة حتى ولو ارهق المؤرخون انفسهم لإثبات انها نتجت عن تراكم تاريخي.
«الشروق» فتحت هذا الملف الخطير وطرحت هذه الاسئلة على مثقفي مدينة تالة بالنظر الى خصوصيتها الثورية. وقد تكون رؤاهم منطلقا لمنتدى قد تفكر «الشروق» في اقامته.
ثورة لا علاقة للمثقفين بها
اتصلنا بمديرة دار الثقافة بتالة السيدة شريفة بولعابي وطرحنا عليها مسألة واقع التصحر الثقافي في تالة خاصة وتونس عموما امام عزوف الشباب عن ارتياد دار الثقافة فقالت «ان الثورة في تونس في الحقيقة لم تكن ناتجة عن مشروع فكري بقدر ما هي نتاج ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية اي انها هبة شعبية ضد اشكال الاستعباد لا علاقة للمثقفين بها لانهم يظلون حتى بعد الثورة وحتى بعد توفر مناخ الحرية اسيري بناهم الفكرية المغلقة. وتؤكد بأن ازمة الثقافة تعود الى كونها مسيسة الى النخاع في تونس اذ استغل البعض جو الحرية ليسيء الى هويتنا ومقدساتنا.
النأي بالثقافة عن التوظيف
الابداع في تونس الآن في رأيها تحول الى مجال للإساءة والاعتداء على العقيدة وهذا شكل من اشكال الازمة الثقافية. وعن سؤالنا عما فعلت دار الثقافة من اجل المصالحة بينها وبين المواطن اجابت نحن كمؤسسة ثقافية حاولنا مواكبة التحولات الحاصلة في الجهة لكن بصورة تضمن لنا ولو ببطء القطع مع الثقافة التي ارتبطت بالتجمع ورؤى الحزب المنحل وهدفنا الاساسي هو ان ننأى بالثقافة عن التوظيف الحزبي. وقد حاولنا الارتقاء بالمشهد الثقافي في اتجاه الانفتاح على الطاقات الابداعية بالجهة.
سيطرة ثقافة التمرّد
لكن يبدو ان عوامل اخرى ما زالت تحول بين دار الثقافة وبين المواطن الذي يظل يعتقد في وجود علاقة ما بين ما يعرض وبين السلطة. ما زال الناس يعتقدون ان الثقافة خادمة للسلطة وهو ما يفسر كما تقول السيدة شريفة بولعابي حالة العزوف عن المشاركة في النشاط الثقافي بالجهة. السيد نجيب الحيوني وهو استاذ تاريخ يشخص اشكالية العزوف عن الفعل الثقافي بقوله : ان تاريخ المنطقة هو تاريخ تمرد. بل يمكن القول انها لم تخضع للاستعمار كما بقية جهات الشمال التونسي فقد كان وجود المستعمر الفرنسي بتالة رمزيا ويكاد يكون غائبا لعدم وجود ثروات طبيعية وزراعية تستهوي المعمر الفرنسي وهو ما يفسر نوعا ما سيطرة ثقافة التمرد والرفض في شخصية الفرد ويتجلى ذلك في الشعر والغناء الشعبيين مثلا. من هذا المنطلق يقول نجيب حيوني فإنه من الطبيعي جدا ان يستقر في إدراك الناس هنا ان كل ثقافة تقوم على التطابق والانسجام هي ثقافة سلطة يجب مقاومتها حتى وان اثبتت ابداعيتها. فالثقافة المحركة للفرد هنا هي ثقافة المقاومة ورفض ما هو مختلف ولذلك يمكن تفسير سر عزوف الناس عن المشاركة والتفاعل مع الحركة الثقافية لأنها تظل متهمة بالانحياز للسلطة. وعليه فان السمة الاساسية هنا هي ان يظل الفرد متمردا وان تظل المقاومة متواصلة اي بكلمة واحدة ان ثقافة المقاومة تظل قائمة حتى عندما يكون المطلوب التأسيس لثقافة بنائية ضمن مؤسسات وهياكل ترعى الابداع.
تجفيف منابع الإبداع
عندما سألنا السيد فتحي السائحي موظف بقطاع الطفولة بتالة عن سر التصحر الثقافي أجاب : من الطبيعي جدا ان تسيطر ثقافة الرداءة كنتيجة لتخطيط استراتيجي طيلة 23 سنة غايته تدمير روح الثقافة القائمة على النقد والمساءلة والحوار. نظام بن علي لم تكن خطورته كامنة في فعاليات القمع بل في الافراغ المدروس منهجيا للشخصية النقدية الفاعلة. كان يمارس سياسة تجفيف لمنابع الثقافة الخلاقة. كان يريد ان يصنع نموذجا لفرد مستهلك الى درجة الاعتزاز بتفاهته. بن علي حسب فتحي السائحي لم يكن مجرما لأنه نهب اموال تونس بل لأنه دمر روح الابداع في الشخصية. ولذلك فانه من الطبيعي حسب رأيه ان تظل الثقافة بعد الثورة جريحة مهمشة يلزمها الكثير من الوقت لإعادة ترميمها على اسس جديدة وهي مهمة مثقف ما بعد الثورة.
نموذجية الثورة غابت عن الثقافة
نفس الاسئلة المتعلقة بمأزق الثقافة بعد الثورة توجهنا بها الى استاذ الفلسفة السيد توفيق القاسمي فكانت اجابته كما يلي: الثورة التونسية ثورة نموذجية لكنها لم تترافق مع ثقافة نموذجية حتى يكتمل مشهد الربيع العربي اذ وجد زمن الثورة حراكا شعبيا هائلا وفي المقابل غياب ابداع ثقافي مولود من رحم هذا الحراك ولذلك لجأ الناشطون والثائرون والمتمردون الى الحفر في ذاكرتهم الشعبية للتعبير عما يريدونه من ذلك مثلا أن شباب تونس وشباب تالة لا يشذ عن هذه القاعدة استنجدوا بمواريثهم القديمة والقريبة في اغانيهم وأناشيدهم لحظة التعبير عن سخطهم تجاه النظام السياسي ولذلك شهدت هذه الثورة عدة تعرجات وستشهد ذلك مستقبلا...و في غياب أرضية ثقافية موحدة ومواكبة لمستلزمات الثورة نشهد في تونس ميلاد تعبيرات ثقافية استثنائية يعتبر كثير من التونسيين أنها لم تكن من مطالب الثورة والثوار وأهمها التعبيرات الدينية المتشددة أو التعبيرات العلمانية المتطرفة وقد يرتبط ذلك بهذه العلاقة العجيبة القائمة على اختلال التوازن بين المشروع السياسي التونسي الضخم الذي يحاول بناء مجتمع ديمقراطي من جهة ورؤية ثقافية متأزمة تنشد الى الماضي أو تقفز الى غير الحضاري دون مراعاة ما يريده التونسيون كفئات شعبية لا كنخب تعيش في أبراج عاجية. ان ثقافة بديلة تعبر عن أهداف الثورة مطلب عاجل وضروري ويمكن أن يكون البدء من خلال محاولة اعادة التوازن بين ما نريده في تونس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وما نحتاجه ثقافيا لان الثورة لا يمكن أن تكون انجازا في المجتمع دون أن تكون وعيا وسيرورة فكريا وثقافيا. لا ثقافة بديلة بعد عام ونصف من الثورة
وبسؤالنا السيد مصطفى قناوي وهو امين مكتبة متقاعد عن أسباب غياب ثقافة بديلة بعد الثورة فكان رأيه يتمحور حول فكرة «من المبكّر جدّا أن نتساءل عن سبب غياب ثقافة ايجابيّة بديلة في ظلّ صراعات وتجاذبات سياسيّة وأوضاع أمنيّة غير مستقرّة. بعد سنة ونصف عن اندلاع الثّورة التُونسيّة وبعد أن عشنا حقبة طويلة تحت وطأة الخوف من النّظام القمعي البائد الذي كبّل كلّ المواهب الفكريّة والثّقافيّة ليجعلها غير قادرة على تفجير ما تحتويه من طاقات ابداعيّة ممّا خلق نوعا من التّصحّر الثقافي وعزوفا من كلّ رجال الفكر والفنّ والأدب عن الانتاج الحرّ والابداع غير المقيّد. لقد كرّس النّظام البائد سياسة المراقبة والتّرهيب والمنع لكلّ الأنشطة الثّقافيّة والفكريّة التي تدعو الى التّحرّر والانعتاق من هيمنة النّظام والحزب الواحد الذي جثا على صدورنا وكمّم أفواهنا وكبّل أقلامنا. لقد سعى النّظام البائد الى شراء ذمم الطبقة الفكريّة لتلميع صورته في الدّاخل والخارج ورصد أموالا خياليّة لذلك.