أمكن النظام السابق على امتداد سنوات الحكم الفاسد البائد، أن يصادر الفكر ويكتم أنفاس الحريات، ويلجم حرية التعبير عن الرأي والرأي المخالف، ويقيم حول الابداع الفكري والثقافة أسلاكا شائكة، وهي أسلاك المنع والتضييق والرقابة، مما أفرز في ظل هذا المناخ غير الطبيعي، نتيجة طبيعية، ألا وهي الجفاف والتصحّر بالساحة الثقافية الفكرية الابداعية.. ولعلّ أبرز مظاهر التصحّر المشار اليه، تهميش الكتاب، وتحويل وجهة المطالعة نحو كل المؤلفات والعناوين التي تتضمن التطبيل والتهليل للمخلوع ونظامه.. وبعد ثورة 14 جانفي الشعبية التي أطاحت بنظام بن علي، تغيّر المشهد، وتبدّل الوضع من حال الى حال، وأطلق العنان لحرية الرأي والتعبير، فخرجت من الظلمات الى النور آراء وأفكار وعناوين تفضح ما كان يمارسه النظام السابق، من قمع ومنع ومصادرة للكلمة الحرّة، والفكرة الخلاّقة، والرأي المستنير.. ومن خلال جولة أخذتنا الى بعض المكتبات بالعاصمة، طالعتنا عبر الواجهات، بعض من هذه العناوين للكتب المفرج عنها، بفضل ثورة الحرية والكرامة فهل صالحت هذه الثورة بين القارئ والكتاب، وحققت عودة الروح للكتاب الورقي وفي المطالعة؟ وأي العناوين الأكثر رواجا، بحيث لا يكفّ السؤال عنها والإقبال عليها..؟ كتب ممنوعة في النظام السابق.. تنعش قطاع المكتبات من خلال واجهات المكتبات، تفهم وتقرأ علامات وآثار هبوب نسمة الحرية على المشهد الفكري بالبلاد، عقب الثورة الشعبية التي اقتلعت النظام الديكتاتوري وعصفت به في يوم شتائيّ غاضب.. فهناك عناوين باللغتين، العربية والفرنسية منها ما يسبح في السياسة، سباحة حرة وفي الأعماق، ومنها ما يجول بعالم الشريعة والدين، وما أكده جمال الشريف الذي يعمل بإحدى المكتبات بشارع الحبيب بورقيبة (الشارع الذي اندلعت منه الثورة الشعبية المباركة)، هو أن الثورة قد أنعشت المكتبات ولو بصفة ظرفية، لأن الحديث عن المصالحة بين القارئ والكتاب حسب رأيه، لا يكون إلا إذا تم توخي استراتجية كاملة وواضحة المعالم، من شأنها ردّ الاعتبار للكتاب، عن طريق البرامج التعليمية بالمؤسسة التربوية، وكذلك السلط المعنية بالشأن الثقافي، وعلى رأسها طبعا وزارة الثقافة وحماية التراث.. أما عن أكثر الكتب والمؤلفات رواجا، بعد ثورة 14 جانفي، فإنه كتاب حاكمة قرطاج «للفرنسي نيكولا بو»، حيث نفدت معظم الكميات، من العديد من المكتبات، ومنها بالخصوص المكتبات الكائنة بالعاصمة وفي شارع الثورة (الحبيب بورقيبة)، بسبب تهافت القراء على مطالعة ما تضمنه الكتاب من أسرار وفضائح وممارسات فساد «حكم» ليلى بن علي.. وأكد جمال الشريف أن الطلب على «حاكمة قرطاج» قد سجل تراجعا في الفترة الأخيرة، ليتجه الإقبال نحو عناوين ومؤلفات أخرى، بالفرنسية او بالعربية، لم تكن لتظهر بالسوق، وتُعرض في واجهات المكتبات، لولا اسقاط الثورة الشعبية للنظام السابق. فيصل الشطبوري الذي يدير مكتبة بمنطقة حي الرياض في سوسة، تساءل بخصوص «حاكمة قرطاج»: لماذا كل التهليل الإعلامي بهذا الكتاب.. ألأن مأتاه من الخارج.. أي لمؤلف أجنبي..؟» ثمة عديد المؤلفين والكتّاب التونسيين ممن تناولوا فساد النظام السابق بالطرح والنقد، ورغم ذلك لم يحظوا بما حظي به صاحب «حاكمة قرطاج» من إشهار وشهرة ودعاية إعلامية.. واعتبر محدثنا الذي عرّج على مشكل كثرة الدخلاء بقطاع المكتبات، أن عقدة الأجنبي مازالت تلازمنا، حتى في الشأن المتعلق بنشر الغسيل الداخلي، وفضائح فساد نظامنا الحاكم السابق. الكتب الفكرية القيّمة كانت مستهدفة بالمنع والقمع من النظام السابق ضمن الجرائم المرتكبة من قبل النظام السابق، أنه أفقد القارئ الثقة في الكتاب في ساحة غابت فيها كتب الفكر والحداثة والمجتمع المدني، بسبب أساليب ووسائل المنع والقمع. وحسب مستجوبنا جمال الشريف، وهو الى جانب كونه يتعامل يوميا مع الكتب والكتّاب وهواة المطالعة، رجل ثقافة، فإن ما كان يروّج بالسوق ما قبل الثورة، كانت كتب التخلّف من حاكم متخلّف، سعى الى القيام بعملية تصحّر وقحط فكري في تونس.. بن علي، أو لنقل النظام السابق، كان معتنقا لمذهب فكري واحد، وهو الشعوذة والسحر وعالم الدجل والخرافات، كذلك فإن الكتب الفكرية القيّمة لم تكن تعنيه، بل أكثر من ذلك، كانت مستهدفة للمنع.. ويبيّن جمال أن وزارة الداخلية في فترة النظام السابق، كانت الاداة المنفذة لهذا المنع الذي لم يكن يحتكم الى أية مقاييس موضوعية، حتى إن هناك كتبا مدرسية وكذلك روايات، ودليلا للسياحة، منعت جميعها من السوق التونسية.. هي طبيعة الأنظمة الديكتاتورية، ونظام بن علي كان من هذه الأنظة، وهو ما يفسّر توجه المؤسسات الثقافية، وكذلك الإعلامية، والكتاب، نحو تلميع صورة النظام.. وبسبب التضييقات على الكتب والمؤلفات عند التوريد، وما ينجم عنها من الحجز لدى الديوانة ثم منعها من قبل وزارة الداخلية، كانت المؤسسات تتكبّد خسائر مضاعفة، مما أدى بالكثير منها الى إعلان الإفلاس.. عانى المفكرون والمثقفون والكتّاب الشرفاء الكثير في سنوات التصحّر خلال النظام السابق، وفي نفس الوقت، واجه الكتاب التهميش والاقصاء، وفي هذا الاطار ذكر الشريف أن ما قيل بأنها استشارة وطنية حول الكتاب، لم تكن في الحقيقة سوى وهم من ضمن أوهام أخرى عاشتها البلاد، كوهم صندوق 26 26 وأوهام أخرى متعددة.. قضية مطروحة للنقاش : إغراق السوق بعناوين موجهة في اتجاه إيديولوجي معيّن يحمل القارئ إلى سكّة الخطر.. عديدة ومختلفة هي العناوين والمؤلفات التي ساهمت الثورة بشكل فعّال، في إهدائها للقارئ المتعطّش الى الكلمة الحرّة والرأي المستنير، والفكر الناقد.. ومن ضمن الكتب التي لاقت الرواج الكبير بعد الثورة، بالاضافة الى «حاكمة قرطاج» كتب أخرى عن سقوط الدولة البوليسية في تونس، وعن قذارة وفساد حكم النظام السابق باللغتين العربية والفرنسية.. ومع الكتب السياسية، راجت عديد الكتب والعناوين الثقافية والدينية التي تنفّس مؤلفوها الحرية، بفضل ثورة 14 جانفي.. ولئن ساهم هذا المناخ الجديد في إضفاء التنوّع والثراء على مستوى الأفكار والرؤى والآراء، فإن السؤال الذي نطرحه وربما يطرحه المتابعون للساحة الفكرية وللشأن الثقافي في بلادنا هو: ألا يمكن أن يساهم إغراق سوق الكتاب بعناوين موجهة في اتجاه ايدولوجي معين، أن يسقط القارئ في مسلك قد يحيد به عن الثوابت والمبادئ، إن كانت دينية عقائدية، أو أخلاقية قيمية؟ هشام (أستاذ فلسفة)، يرى أنه لا لإدخال القارئ في منعرجات وطرق فرعية، ومسالك ملتوية، ولا لركوب النخبة ايضا على الثورة.. كما أنه من شأن التوظيف الايدولوجي للتصورات والرؤى الفكرية، أن يساهم في تعويم سوق الكتاب بإسقاطات تكون على حساب القارئ وعلى هامش ثورة شعبية عفوية..