لم يغفَل مؤتمر حركة النهضة عن ذكر النخبة وتحديدًا الفنّانين والمثقّفين.. وَرَدَ ذلك في كلمة السيّد رئيس الحكومة المؤقّتة حين قال ما معناه إنّ الحركة تسعى إلى توسيع دائرة «جاذبيّتها» في المرحلة القادمة بحيث تنجح في «إقناع» النخبة.. الأرجح (عمَلاً بالفكر المقاصديّ) أنّه يقصد «استقطاب» النخبة! ولمّا كان تاريخ انعقاد المؤتمر قريبًا من تاريخ حادثة قصر العبدليّة.. ولمّا كانت الحادثة برهانًا على حقيقةِ وزن «النخبة الثقافيّة» لدى «النخبة الحاكمة».. فقد بدا الأمر للكثيرين أقرب إلى الوعيد منه إلى الوعد! وكأنّهم بعد لعبة «السيّد والعبد» مدعوّون إلى لعبة «الشيخ والمريد»!
ما أن يتحدّث الحاكم عن «إقناعٍ» يُفهم منه «الاستقطاب» حتى يستحضر الذهنُ آليّات الترهيب والترغيب.. ممّا يُكسِب الاستعارة قُدْرَةَ زلّة اللسان على فضح المكبوت.. أقصد هنا استعارة الجاذبيّة حين تُربَط بالسياسة فإذا هي تعني رغبة الحاكم في ابتلاع كلّ من يدور في فلكه!
تلك سياسة كلّ استبداد.. وستظلّ هذه السياسة دليلاً على استبداديّة كلّ نظام يعتمدها ما لم يفهم هذا النظام أنّ الإبداع والثقافة لا حياة لهما ولا معنى لوجودهما إلاّ ضدّ قانون الجاذبيّة.. وهو فَهْمٌ يستحيلُ أن ترتقي إليه الدكتاتوريّات العتيدة فضلاً عن «الدكتاتوريّات الناشئة»!
كان قاضي الادّعاء الفاشيّ واعيًا كلّ الوعي بدلالة كلامه حين انفجر صارخًا أثناء محاكمة أنطونيو غرامشي: «لابدّ من تعطيل هذا الدماغ عن التفكير»! الاستبداد يعرف أنّه زائل ما دامت الرؤوس تعمل، وتحديدًا رؤوس المثقّفين والمبدعين، لذلك يسعى إلى تعطيل هذه الرؤوس أو قطعها!
فأس لكلّ رأس..
تلك هي لازِمَةُ الاستبداد باسم الدنيا والاستبداد باسم الدين! كِلاهُما قهر ويقين وأحاديّة ورِدّة وتغليب للثابت على المتحوّل وعيشٌ على المعلّب الجاهز وتنويم للعقل والوجدان.. بينما الإبداعُ حريّةٌ وسؤال وتعدّد وانفتاح على المستقبل وتغليب للمتحوّل على الثابت وثورة على المتكلّس في المكان والزمان واستفزازٌ لكلّ راكدٍ في العقل والوجدان..
قد تغري السخريةُ بالسير على نهج المتنبّي حين التمس عذرًا لحسّاده قائلاً: إنّي وإن لُمْتُ حاسِدِيّ فما أُنْكِرُ أنّي عُقُوبة لَهُمُ.. فليس من عقوبة أشدّ وقعًا على المستبدّين من الإبداع الحرّ.. وقد تكون الحريّةُ سببا كافيًا كي يحقد المستبدّون على الثقافة.. إلاّ أنّ لهذا الحقد مكانه في سيناريو أكثر تعقيدًا.
إنّه سيناريو أزمة التمزُّق بين زمنين.. تلك التي لم يغفل عنها غرامشي أيضًا حين قال «الأزمة شيخٌ يحتضر وشاب لا يجرؤ على أن يُولد»..أو حين قال: «ثمّة أزمة حين يحتضر العالم القديم وتتعسّر ولادة العالم الجديد ومن تلك الفترة من نصف العتمة ونصف الضوء تنبثق الوحوش»! المهمّة الصعبة إذنْ قد لا تتمثّل في استقطاب النخبة بقدر ما تتمثّل في إقناع الشعب بأنّه ليس أمام وحْشٍ يريد أن يحلّ محلّ وحش! وليس أمام «شيخوخة مبكّرة» تريد أن تتسلّط على رقبة زمن يُولَد لإرغامه على «التقاعد المُبكّر»!
أمّا النخبة الثقافيّة والإبداعيّة فقد أثبت التاريخ أنّ استقطابها لا يقلّ كابوسيّةً عن المُطالبة برأسها. لا تحتاج «النهضة» الحقيقيّة (La renaissance) في دلالتها الكونيّة وحتى في إرهاصاتها الإقليميّة إلى استقطاب النخبة فهي ثمرةُ عمل هذه النخبة.. أمّا «حركة النهضة» فهي في حاجة إلى أكثر من ذلك.. لأنّها لم تقدّم حتى الآن أي برهان على أنّها لم تنتحل اسمها!
وأيًّا كان الأمر فلا خوف على الثقافة.. إنّها مثل ذلك الكائن الأسطوريّ تزداد قوّةً كلّما طُرحت أرضًا.. ولعلّها لا تخلو من مازوشيّة فهي تزدهر في المِحَنِ وتقتات من الأزمات.. إنّها ابنة سارق النار وابنة ديونيزوس وابنة أبولون وابنة أبي ذرّ وابنة أبي نواس.. وهي ابنة كلبٍ إذا لزم الأمر.. تعرف كيف تنتزع حقّها في أن تنبح كلّما حرّم البعض النباح!
لقد انتصر المبدعون التونسيون على كلّ استبداد سابق بل جعلوه يرى النُجوم في الظهر! والدليل على ذلك في كلّ ما أنتجوه من فكر ومسرح وسينما وشعر وموسيقى وتشكيل على الرغم من الرقابة والقمع والتهميش.
ولن يلبث أيّ استبداد لاحقٍ أن يقف على الجمرة نفسها. الثقافة والإبداع هما الحجر الذي يتحطّم عليه كلّ استبداد! كلّ الذين حاربوا الحريّة انهزموا وانتصرت الحريّة. كلّ الذين حاربوا الإبداع انهزموا وانتصر الإبداع.