أضع الثّلج على أعصابي. أفتح مكيّف الهواء إلى أقصى سرعة. تتقدّم السّيّارة شبرا فشبرا وسط طابور يزحف نحو الجسر المتحرّك. يكون ثلاثيّا فثنائيّا ثمّ يتقلّص فلا يسمح بالعبور لغير عربة واحدة مفردة. اختناق للسيّارات ولنفوس ركّابها وللرّاجلين في الحاشية. حدث هذا عند قومي للمدينة ، وأعيد عليّ مثله أو ما أقسى منه عند الخروج. أليس من العجب أن تضيق نفسك وتبتئس وأنت مقبل على أمر تشتهيه ،ثمّ تنسى ويغمرك الرّضا عند نيلك ما أحببت واشتهيت، وبعدها يعود إليك الضّيق والحزن ليقضي على ما كنت فيه من هناء. هكذا حصل الأمر معي، وضاعت لذّتي بين ضيق الدّخول إلى المدينة التي أعشق ، وضيق الخروج منها.
تجاوزت ذلك في فاصل اغتنمته للسّباحة في الكرنيش . حاولت أيضا نسيان أكداس القمامة المحيطة بسوق طالما أبهجتني ألوانه. تغاضيت عن الدّاخلين للصّلاة في جامع الرّبع بلحى أفغانية و«هدارش الفريب»...خليط عجيب لا يشتهيه النّظر.
نسيت الانتصاب الفوضوي في أبرز الشّوارع، وليس للعابر بينها منفذ. نسيت زحام السّيّارات تتجوّل في فوضى وضيق جعلاها تهمل كلّ القوانين وتخوض مع الرّاجلين والمنتصبين مناكفات و حرب مواقع لا تنتهي.
نسيت وحشتي وأنا أجول في حيّ شهد مولدي ومرح طفولتي بالكرة والعجلة والكركارة بين أزقّته ومنعطفاته ...حاذيت الأبواب فلم تتسلّل من خلالها روائح مألوفة، وفحصت العابرين فلم ألاق وجوها معروفة.
نسيت كيف شوّهوا الميناء القديم و كدّسوا حوله حجارة خنقت حركة مائه حتّى أسن و اخضرّ لونه وفاح منه العطن. نسيت الاستغلال الفاحش لضفافه بمقاهي الشيشة والمطاعم الرّخيصة.
نسيت الإهمال واللاّمبالاة بمعمار فريد ورثته المدينة عن أقوام سكنوها وتركوا بصمات وجودهم في أسوار وقلاع وأحياء عتيقة أو حديثة ومبان بنمط شرقيّ أو نمط استعماري . نسيت حواجز الخشب الوقحة قد فصل بها أصحاب المقاهي رواق الكافي ريش وتقاسموه.
نسيت خصومة اعترضتني في مدخل نزل قصدته للرّاحة والمتعة.. كنت تركته في ماضي الأيّام أنيقا جميلا وهادئا. واليوم رأيت الحرّاس يسحبون منه سكرانا يسبّ العالم كلّه وزبائن المحلّ بالخصوص ويهدّد بحرقه لأنّه منع من التّنافس مع بعض الشّبّان على مومس ما كان لها أن تدخل المكان أصلا. لا أحبّ تذكّر الغداء الهزيل، ولا هيئة مدير النّزل وهو بين القدور وقد انتفخ أنفه مثل سكّير عريق. وعهدي به شابّا على غاية الأناقة والوسامة، فماذا جرى ؟ ارتميت في ماء الكرنيش دون أن أسأل ماذا جرى لمدينتي؟
اشتقت إليك يا بحري أيّما اشتياق ، ولا أريد إفساد متعة لقائنا بإفشاء ما ينغّصني. لا تسأل واتركني لنعمة النّسيان ...دعني أغتنم سعادة اللّحظة الحاضرة . هزّتني موجة فضحكت منها وبدأت أعابث من حولي من العائلة وأرشّهم بمائها.
كان بقربي ابني الذي تعلّم بين العاصمة وباريس ثمّ ذهب متعاونا في الخارج . كان واقفا يتأمّل الشّاطىء بملامح حزينة ، وكأنه يقارنه بشواطىء أخرى يعرفها وتدفّق بالأسئلة : لماذا أقيم ذلك الجدار الرّمادي الشبيه بجدار برلين؟ أيليق وجوده بهذا المكان السّياحي؟ هل جعل ليحول بين خضرة البساتين ورمال الشاطئء الجميل؟ ما تلك البناية إلى يمينك قد تهاوت ووصلت حجارتها ورممها حتى رشم الماء؟ هل ما أراه هناك نزل مهمل أم يعاد ترميمه ؟ وتلك البناية الضّخمة ...أليست نزل البالاس الشهير ؟ لماذا لا أرى أثرا لحرفائه على الشّاطىء؟ هل هو مغلق أو لم يأته أحد هذا العام؟
تبخّرت سعادتي فجأة وصرخت محتجّا : « لماذا تفسد عليّ نسياني؟ لماذا لا تتركني سعيدا بضع لحظات مع هذا الشّيء الوحيد الذي لم يفسده الزّمن ؟ مع هذا البحر الذي عرفني وعرفته من الوهلة الأولى...مع هذا الماء الذي لم أرتح منذ وصولي إلا عند ارتمائي فيه. لا تفسد عليّ لحظات النّعيم هذه يا ابني. فقد لا تشعر يوما بنفس إحساسي الآن وأنا أرى الموطن الذي تلبّسني وسكن جوارحي يغدو مسخا غريبا ، يبتعد عنّي وأنكره حتّى لا أكاد أعرفه.