سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    يوميات المقاومة...تخوض اشتباكات ضارية بعد 200 يوم من الحرب ..المقاومة تواصل التصدي    أخبار الترجي الرياضي ...مخاوف من التحكيم وحذر من الانذارات    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    انتخابات جامعة كرة القدم .. قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    اعضاء لجنة الامن والدفاع يقررون اداء زيارة ميدانية الى منطقتي جبنيانة والعامرة من ولاية صفاقس    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    فاطمة المسدي: ''هناك مخطط ..وتجار يتمعشوا من الإتجار في أفارقة جنوب الصحراء''    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    تحول جذري في حياة أثقل رجل في العالم    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    رئيس مولدية بوسالم ل"وات": سندافع عن لقبنا الافريقي رغم صعوبة المهمة    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أساليب التربية في القرآن الكريم .. التخطيط واتخاذ الأسباب (44)
نشر في الحوار نت يوم 23 - 10 - 2010


من أساليب التربية في القرآن الكريم
التسلسل المنطقي(42)
الدكتور عثمان قدري مكانسي

سرد الأحداث أو الأفكار مسلسلة مرتّبة يقيّد المتلقي في أمور عدة منها :
1 استيعاب الأفكار أو الأحداث دون انقطاع .
2 حسن المتابعة لما يُلقى عليه وحسن التفاعل .
3 قدرة المتلقي على الحكم السليم على ما يسمع .
4 الاستجابة لعدد أكبر من الأفكار والمعلومات .
والقرآن الكريم يخاطب أولي الألباب ، والقومَ الذين يعقلون ، ويتفكرون وأولي الأبصار . . . ويسعى إلى إقناعهم بما يلقي عليهم واكتسابِهم وإنقاذهم من الضلال . . فلا غرو أن يخاطبهم بهذا الأسلوب المتميز الذي يسارع في الوصول إلى الهدف .
فمن الأمثلة على التسلسل المنطقي قوله تعالى : (( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي
وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) ))(1) .
إن التسلسل المنطقي في هذه الآية :
1 تقديم الذكر على الأنثى .
2 يشعر المسلم بالضيق فيهاجر .
3 ينصبُّ العذاب على من بقي فيضطر للخروج مكرهاً .
4 يُطاردون ويؤذَوْن في سبيل الله .
5 يقاتلون الأعداء الذين أساءوا إليهم .
6 يُقتلون في المعركة .
7 إن الصبر على الذى ثم الجهاد في سبيل الله والاستشهاد يكفّر عنهم سيئاتهم فيكونون أهلاً لدخول الجنة .
8 فيدخلونها . . .
ومن الأمثلة عليه كذلك قوله تعالى :
(( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ))(2).
فكان التسلسل المنطقي كما يلي :
1 شراء النفس وهي أغلى .
2 شراء الأموال . . والبَدَلُ " الجنّةُ " .
3 بدء القتال في سبيل الله .
4 يَقتلون ويُقتلون .
5 الوعدُ في التوراة أولاً والإنجيل ثانياً والقرآن ثالثاً حسب التسلسل الزمني .
6 الذي وعد بذلك هو الله سبحانه وتعالى ، ووعدُهُ الصدق .
7 البيع إذاً صحيح وافر الربح كبير الفوز . . .
ومن أمثلة التسلسل المنطقي كذلك قوله سبحانه جلّ شأنه :
((الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ
أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) ))(3) .
يظهر التسلسل المنطقي فيما يلي :
1 نُظِّم القرآن تنظيماً محكماً ليس فيه تناقض ولا خلل .
2 ثم فُصِّل تفصيلاً دقيقاً كاملاً موضحاً مراميه .
3 جاءت صفة حكيم تناسب الإحكام ، وصفة خبير تناسب التفصيل والشرح .
4 لِمَ أُحكم وفصِّل ؟ ليعبد الناسُ ربهم العبادة الصحيحة .
5 ما دور الرسول صلى الله عليه وسلم :
أ إنذار الناس من عذاب ربهم إن خالفوه .
ب بشارتهم بفضله وعفوه إن آمنوا به وأطاعوه .
6 من علائم العبادة عند معرفة الله تعالى الاستغفار أولاً ، والتوبةُ إليه من الذنوب ثانياً .
7 فإن حصل هذا نال كل محسن جزاءه .
8 وإلا كان هناك عذاب كبير في يوم مخيف .
9 ومتى هذا ؟ يوم القيامة حين ترجعون إلى الله تعالى .
10 وهل يستطيع ربنا إحياءنا بعد إماتتنا ؟ نعم إنه على كل شيء قدير .
11 يظهر بعض من يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم حبه إياه ويضمر كرهه وعداوته .
12 فالله سبحانه يعلم ما يسرون وبدأ بالسر ليناسب الاختباء والتغطية بالثياب خوف الفضيحة ، ثم
جاءت كلمة يعلنون .
13 هل يعلم الله السر ؟ نعم . . إنه عليم بذات الصدور .
إنها متابعة دقيقة وتعليل متسلسل ، ينتقل من فكرة إلى فكرة انتقالاً واقعياً منطقياً ليس فيه انقطاع .
ومن الأمثلة كذلك قوله تعالى :
(( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ
أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا
وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ
يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) ))(4) .
ويبدو التسلسل المنطقي في عرض الأفكار هنا فيما يلي :
1 يوم القيامة يعرض المكذبون على ربهم سبحانه .
2 يفضحهم الله تعالى حين يأمر الأشهاد من الخلائق أن يشيروا إليهم بالكفر، والفساد ، والكذب.
3 تنصبُّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لكفرهم ، وظلمهم .
4 هؤلاء كانوا يمنعون الناس من اتباع الحق ، ويريدون أن تكون السبيل معوجة ، وجحدوا
بالآخرة وكفروا بها .
5 فهل أفلتوا من عذاب الله ؟ هل هناك من نصير يدفع عنهم العذاب ؟ لا . . .
6 بل يضاعف لهم العذاب لأنَّ الله تعالى جعل لهم سمعاً وبصراً ، لكنهم كانوا صماً عن سماع الحق ، عُمياً عن اتّباعه ، فلم ينتفعوا بما حباهم الله من حواس .
7 قد يخسر الإنسان شيئاً مَهْما كان مُهِمَّاً فيعوضُه . لكنْ حين يخسر نفسه فهذه هي الخسارة التي لا تعوّض .
تسلسل رائع في عرض الأفكار وتحليلها ، والوصول إلى الهدف المنشود .
ومن الأمثلة على التسلسل المنطقي قصة نوح عليه السلام لكننا نقتطع من المشهد كلِّه جانباً واحداً . . قال تعالى : (( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي
وَغِيضَ الْمَاءُ ،
وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ
وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) ))(5) .
ويبدو التسلسل فيما يلي :
1 الأمر للأرض أولاً أن تبتلع ماءها الذي نبع فيها ، ويرتفع إلى السماء الماءُ الذي نزل على الأرض. هذا في رواية ، وفي رواية أخرى أن تبتلع الأرض ماءها وماء السماء الذي نزل ، فمهمتُها أشقَّ ، ثم الأمر للسماء أن تحبس مطرها .
2 ذهب الماء في أغوار الأرض ، وتم بهذا إغراق مَنْ غرق ونجاةُ من نجا .
3 ثبات السفينة على الأرض فوق جبل الجودي ، فنزل الناس واطمأنوا .
4 لما انتهى كل هذا ، وتبيّن هلاك الكافرين كان الدعاء عليهم .
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى :
((قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)))(6) .
ويظهر التسلسل هنا فيما يلي :
1 زرع سنين سبعٍ بجهد ونشاط وهذه سنوات الرخاء .
2 تخزين مالا يحتاج إليه من القمح في سنبله كي لا يسوس ، وأكل ما يُحتاج إليه .
3 تأتي سنون سبعٌ جدباء لا زرع فيها ذات شدة وقحط على الناس ، تأكلون فيها ما ادخرتم أيام الرخاء .
4 اتركوا للسنة الثامنة بعض القمح الذي ستزرعونه فيها .
5 في السنة التي تخلُفُ سنيَّ الجدب العصيبة يعم الرخاء فيكثر المطر والزرع والأعناب .
ومن الأمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى : (( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) ))(7) .
1 يعذب المشركون مَنْ آمن ويفتنونهم عن دينهم .
2 يضطر المسلمون إلى الهجرة للنجاة بدينهم وإنشاء مجتمع مسلم .
3 والمجتمع المسلم لا يحميه سوى الجهاد في سبيل الله .
4 للجهاد في سبيل الله مشاق ، على المسلم أن يتحمّلها ويصبر عليها .
5 بعد الهجرةِ والجهادِ والصبرِ يغفر الله تعالى ويرحم .
أفكار متسلسلة تأتي الواحدة إثر الأخرى بشكل طبيعي .
ومن الأمثلة على التسلسل قوله تعالى :
(( وإذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
فَفَسَقُوا فِيهَا
فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)))(8) .
لا بدّ لإهلاك أي قرية من سبب . . فما هو السبب . . ؟ :
1 يسلط الله الأشرار المتنعمين ، فيأمرهم أن يحكموا بشرعه ، ويسرعوا إلى مرضاته .
2 لكنّهم يعصون فهم مجبولون على الفساد والطغيان .
3 وجب إذاً عليهم العذاب بفسقهم وطغيانهم .
4 فيدمّرُون تدميراً مريعاً ويهلكون هلاكاً شديداً .
ومن أمثلة التسلسل المنطقي قوله تعالى :
((آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا
حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)))(9) .
1 رَفَعَ سداً بين الجبلين من قطع الحديد بارتفاعهما .
2 أشعل النار في الحديد حتى احمرَّ ، وصار كالنار من شدة الإحماء .
3 صبَّ النحاس المذاب على الحديد ، فسدَّ ما بين الشقوق وملأ الفراغات .
4 صار السدُّ قطعة واحدة يستحيل تحريكها أو نقبها .
إنه عمل متقن مرتب ترتيباً محكماً .
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ
1 تَابَ
2 وَآَمَنَ
3 وَعَمِلَ صَالِحًا
4 ثُمَّ اهْتَدَى (82)))(10) .
إنّ هذه الآية مثال صارخ على التسلسل ، فأمعن النظر فيها وتدبّر .
هناك آيات كثيرة تتحدث عن الخَلْقِ وترتيبه .
في سورة " المؤمنون " الآيات [ 12 16 ] ، وسورة " الروم " الآية [ 40 ] ، وسورة
" السجدة " الآيات [ 7 9 ] ، وسورة " الحج " الآية [ 5 ] .
وأخيراً يقول الله سبحانه وتعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
1 مِنْ تُرَابٍ
2 ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
3 ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
45 ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ (11) وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
6 وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
7 ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا
8 ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
9 وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا . . . )) (12) .
------------------------------------------------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 195 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(3) سورة هود ، الآيات : 1 5 .
(4) سورة هود ، الآيات : 18 22 .
(5) سورة هود ، الآية : 44 .
(6) سورة يوسف ، الآيات : 47 49 .
(7) سورة النحل ، الآية : 110 .
(8) سورة الإسراء ، الآية : 16 .
(9) سورة الكهف ، الآيتان : 96 ، 97 .
(10) سورة طه ، الآية : 82 .
(11) قدّصم المخلقة على غير المخلقة للبناء اللفظي المحكم وهذا لا يخفى على القارىء اللبيب .
(12) سورة الحج ، الآية : 5 .

------------------------------------------------------------------------
------------------------------------------------------------------------
من أساليب الترؤبية في القرآن الكريم
التجريب (43)
الدكتور عثمان قدري مكانسي

طريقة تربوية ، عمليّة ، تفيد في عدة أمور :
أولها : تثبيت الفكرة أو الأمر في النفس ، وتأكيدها .
ثانيها : اختبار المرء في أمرٍ ما ، للحكم على مقدرته .
ثالثها : تعويده على شيء يخافه ليطمئنَّ قلبه ، فلا يخاف استعداداً لما قد يستجد .
رابعا : كشف سريرة المدّعي ، وفضحه .
خامسها : تنقية الصف من شوائبه .
سادسها : التوصل لأمر جديد لم يكن موجوداً سابقاً .
فمثال الأمر الأوّل : تثبيت الفكرة وتأكيدها :
أ قصة عُزَير الذي أماته الله مئة عام ، وحفظ طعامه وشرابه ، فلم يفسُدا وجمعَ عظام حماره ثم كساه لحماً ، ونفخ فيه الروح فعاد كما كان . قال تعالى :
(( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟.
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ
قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ؟
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ
فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا (1) ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) ))(2) .
ب وقصة إبراهيم عليه السلام الذي أراد أن يزداد بصيرة في قلبه ، وعقله ، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ، مع العلم أنه شديد الإيمان بربّه وقدرته
(( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ (3) إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)))(4) .
ولم يَشُكَّ إبراهيم عليه السلام في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفيّة الإحياء ، ويدلُّ عليه وروده بصيغة " كيف " وموضوعها السؤال عن الحال ، ويؤيد هذا المعنى قول النبي
صلى الله عليه وسلم : (( نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم )) ومعناه : نحن لم نشكَّ ، فلأنْ لا يَشُكَّ إبراهيم أولى .
ومثال الأمر الثاني : اختبار المرء :
قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) ))(5) .
فاختبر الله تعالى المؤمنين في إحرامهم بالحج بشيء من الصيد يمكن إمساك صغاره باليد ، واقتناص كباره بالرمح . . ومع أن العرب تتلذَّذ بالصيد واقتناصه إلا أن المسلمين لم تمتدَّ أيديهم إليه . . وهكذا كان المؤمنون عند حسن ظنِّ ربهم بهم إذ امتنعوا عن الصيد وهم مُحرِمون وكانوا من الصادقين .
وقال سبحانه عزّ من قائل : ((. . . وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ))(6) ، فهو سبحانه يختبرهم بالمصائب والنعم ليرى الشاكر من الكافر ، والصابر من القائط ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال . . . يختبرهم بما يحبون ليرى كيف شكرهم ، وبما يكرهون ليرى صبرهم . فهم إليه راجعون فيجازيهم بأعمالهم .
ومثال الأمر الثالث : التعوّد على الشيء والاطمئنان إليه :
قوله سبحانه وتعالى :
(( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) ))(7) .
إن الله سبحانه وتعالى حين أراد لموسى أن يكون رسوله إلى فرعون ، وأمام فرعون سيلقي عصاه وتنقلب ثعباناً ، ويخاف موسى من الثعبان ويهرب وعندئذ يكون سخرية لفرعون وقومه حينما يهرب ، جرّب الأمر ، بعيداً عنهم ليعتاد عليه ، فحين ألقى العصا أمام فرعون كان هذا سهلاً عليه ولم يفاجأ ، وكذلك الأمر في إدخال يده إلى فتحة ثوبه ، وإخراجها مضيئة ساطعة تتلألأ كالبرق الخاطف دون مَرَشٍ أو بَرَص .
ومثال الأمر الرابع : كشف سريرة المدعي وفضحه :
أ قول الله سبحانه مخاطباً رسوله الكريم :
((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) ))(8) .
فهذا عتاب لطيف للرسول صلى الله عليه وسلم حين أذن للمنافقين في التخلف عن الخروج بمجرّد الاعتذار . فهم سواءٌ أَذِنَ لهم أم لم يأذَنْ لهم فسيقعدون ويتخلفون عن غزوة تبوك ، فكان الاعتذار وقبُوله ساتراً لهم ، فلم يفضحهم أما المؤمنون فلا يعتذرون عن الجهاد لأنه سنام الأمر وذروة الإسلام .
ب وقوله سبحانه وتعالى في المخلفين من الأعراب : (( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) ))(9) .
لم يسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمخلّفين عن عمرة الحديبية أن يخرجوا معه إلى خيبر لفتحها وأخذ غنائمها مع المسلمين ، وهذا عقاب لهم لتخلفهم ذاك . فلما ادعوا أن المسلمين منعوهم الذهاب معهم لأنهم لا يودون مشاركتهم في الغنيمة قال لهم : ستدعون إلى حرب قوم أشداء هم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب أصحاب الردّة ، فإما أن يدخلوا في دينكم أو تقاتلوهم ، فإن تستجيبوا ولا تتخلفوا يعطكم الله الغنيمة والنصر في الدنيا ، والجنّة في الآخرة ، وإن تتخلفوا كما تخلفتم زمن الحديبية ، يعذبكم الله عذاباً أليماً في نار جهنّم ، فلا عذر أبداً عن تخلف المسلمين عن الجهاد .
ومثال الأمر الخامس : تنقية الصف من الشوائب :
قوله سبحانه :
(( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ . . . ))(10) .
إن طالوت أراد أن يعرف جلد جنوده وصبرهم وثباتهم في القتال ، والقائد حين يعرف جنوده يقدِّر للمعركة ، مكانها ، وزمانها ، وحجم قواتها . . فمرَّ بهم على نهر ، وأمرهم أن لا يشربوا منه ، ومَنْ كان عطشان فليشرب قليلاً ، لكنَّ أكثر الجنود شربوا فصرفهم من جيشه ، فلا خير في جنود لا يطيعون قائدهم قبل القتال لأنهم في القتال سينهزمون ، فلْيتخلص منهم ليكون على بينة من أمره وليكون جيشه من النوع الجيّد الذي لا شائبة فيه .
مثال الأمر السادس : التوصل لاكتشاف جديد :
قوله تعالى على لسان الجن : (( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) ))(11) .
فمن عادة الجن أن يبلغوا السماء لاستماع كلام أهلها ، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد مُنِعت الجنُّ أن تسترق السمع من أهل السماء بله الاقتراب منها ، فقد ملئت بالملائكة الذين يحرسونها ، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول الاقتراب منها .
لقد كانوا يأخذون الأخبار ، ويلقونها إلى الكهّان مغلوطة مبتورة ، فيتلقفها هؤلاء يزيدون فيها ويسرفون ، فمن يحاول استراق السمع بعد الآن يجد شهاباً ينتظره راصداً إياه ، فيحرقه ويهلكه .
فعملية التجريب إذاً تجعل الإنسان يلمس بيديه ، ويرى بعينيه ، ويسمع بأذنيه ، فيثبت الأمر في نفسه ولا ينساه أبداً .
------------------------------------------------------------------------
(1) ننشزها : نركب بعضها فوق بعض .
(2) سورة البقرة ، الآية : 259 .
(3) صرهنّ : اقطعهنّ واخلطهن بعضهنّ ببعض .
(4) سورة البقرة ، الآية : 260 .
(5) سورة المائدة ، الآية : 94 .
(6) سورة الأنبياء ، الآية : 35 .
(7) سورة النمل ، الآيات : 10 12 .
(8) سورة التوبة ، الآيتان : 43 ، 44 .
(9) سورة الفتح ، الآية : 16 .
(10) سورة البقرة ، الآية : 249 .
(11) سورة الجن ، الآيتان : 8 ، 9 .
------------------------------------------------------------------------
------------------------------------------------------------------------

من أساليب التربية في القرآن الكريم
التخطيط واتخاذ الأسباب (44)
الدكتور عثمان قدري مكانسي

العمل الارتجالي لا يؤتي أكله كما لو كان مُعَداً إعدادً جيداً ومدروساً دراسة وافية ، ومعروفة أبعاده وجدواه ، ومراحله .
وكل عمل أو فكرة تخطر على البال لا بدَّ أن تخطط له تخطيطاً ، جيداً تراعي فيه الهدف منه وبدايته وإتمامه وإيجابياته وسلبيّاته ، وإلا كان عملاً عشوائياً قد ينجح وقد يفشل ، واحتمالات فشله أكبر . وإن نَجَحَ فنجاحُه مرحليٌّ أو غير مكتمل .
والقرآن الكريم يضع بين أيدينا نماذج من التخطيط ، الذي يؤدي إلى الوصول إلى الهدف المنشود منها :
ما فعله إخوة يوسف حين شعروا أن أباهم يحب يوسف أكثر منهم ، ويفضله عليهم ، فماذا يفعلون ؟ تدارسوا الأمر فيما بينهم فقال بعضهم : (( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) ))(1) .
تفكير شيطاني سهَّلَ لهم القتل ، وبعد ذلك يعودون أتقياء أنقياء وكأن القتل لا يترك في القلب نكتة سوداء تؤرق صاحبها إلى أن يموت (( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) ))(2) .
وقلبوا وجوه الأمر فرأوا أن إلقاءه في الجب أسلم لهم ، ولن يؤرقهم كما لو أنهم قتلوه . . ثم جاءوا أباهم يقنعونه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف معهم ، في رحلة برية يتريضون ويصطادون ، وأكدوا لهم حرصهم على أخيهم ، فلما أظهر الأب تخوفه أن يتركوه وهو صغير فيعدو عليه في غفلة منهم الذئبُ فيأكله أقسموا أنهم لا يتركونه وإلا فهم خاسرون . وكأنه لقّنهم حجة هم بحاجة إليها يتعللون بها عند أبيهم . . وهكذا كان ((قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) ))(3) .
وحبكوا قصّتهم ورتبوا مكرهم ونفذوا خطتهم ، (( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)))(4) .
فقد :
1 جاءوا أباهم عشاءً فلا يرى الغدر في عيونهم .
2 بدأوا يبكون فشعر بالخطب الجسيم قبل أن يلقوه على سمعه .
3 هيّأه بكاؤهم على تقبّل المصيبة التي سيسمعها منهم .
4 تلطّفوا له بالقول : " يا أبانا " ولهذا فائدتان :
الفائدة الأولى : هي كلمة استعطاف ليرقّ قلبه لهم فلا يعاقبهم .
الفائدة الثانية : إيهامه صدقهم في حرصهم على أخيهم .
5 لقّنوه الحجة التي سمعوها منه في اعتذاره عن إرسال يوسف معهم " أكله الذئب " .
6 أنت لا تصدقنا مع أننا صادقون .
لكنَّ هذا التخطيط المحكم نقض بخطأ كبير وقعوا فيه دون أن يشعروا حين (( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ))(5) .
كان القميص ملوّثاً بدم لكنّه غير ممزّق ، فالذئب الذي أكله كان ذكياً!! لقد جعله يخلع قميصه قبل أن يأكله حتى يستفيد منه إخوته!! لذلك لم يكن التخطيط كاملاً ، فهذه الثغرة فضحتهم ، وعرف الأب ذلك فقال : هذا مكر دفعكم إليه نفوسكم الخبيثة .
وهذه إمرأة العزيز تراود يوسف حين بلغ مبلغ الرجال وكان جميلاً ، وسيماً ، تتفجر الدماء من عروقه ويطفح وجهه إشراقاً فيأبى ذلك ويقول : (( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ))(6) فزوجُها أكرمَ يوسفَ ، وتعهده بالرعاية . فكيف يسيء إليه في زوجته ؟! لا يفعل ذلك إلا الخائنون الذين يجازون الإحسان بالسوء ، ويوسف ليس منهم .
وانتشر الخبر بين نساء المدينة :
أ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه .
ب امتنع عليها وأذلَّ كبرياءها .
والأمران وصمة عار عليها فأرادت أن تلجم أفواههن فماذا فعلتْ :
1 دعتهن إلى قصرها .
2 أكرمتهن بالطعام والفاكهة .
3 أمرت يوسف أن يخرج عليهن فخرج .
4 رأينه فائق الجمال ملكاً يمشي على الأرض ، فدهشن لهذا الجمال الأخاذ .
5 لم يشعرن إلا والدماء تسيل من أصابعهن فقد أخذ الإعجاب بجماله والدهشة له منهن كل مأخذ ، فجرحن أيديهن .
6 شعرت بالانتصار عليهن ، فعاتبتهن على ما قلن في حقها من تجريح .
7 حين رأت نفسها منتصرةً عليهن باحت بمكنون قلبها نحوه ، وأصرت على تعلقها به والرغبة في وصاله ، ولو أدى ذلك إلى سجنه إن أبى .
وهذه خطة جهنميّة لا يفعلها إلا صاحب الكيد الذكي (( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32 ))(7) .
ثم تأمل معي كيف خطط عليه الصلاة والسلام للخروج من السجن بل كيف خطط الله تعالى له :
1 (( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ )) .
2 فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
3 قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ؟
4 قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ
5 قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
6 وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
7 فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
8 قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) ))(8) .
وهكذا كان تخطيط الله تعالى له حيث أخرجه من السجن إلى الصدارة ومن كونه مرؤوساً إلى صيرورته رئيساً .
وكيف خطط يوسف عليه السلام لاستعجال أخيه بنيامين إلى مصر ؟ :
1 (( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
2 وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
3 فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
4 قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
5 قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (62)
6 فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (63) ))(9) .
7 (( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) ))(10) .
إضاءة : أراد أن يرى أخاه الشقيق ، فأظهر تعجبه من كثرتهم وهم عشرة رجال ، فقالوا هناك عند أبيهم رجل آخر . فقال عند ذلك جيئوا به لأراه ، فإن لم يجيء فلا كيل لكم عندي .
ولن يعودوا سريعاً ، إنما سيعودون حين ينفذ القمح ، لذلك جعل ثمن البضاعة فيها لعلمه أنهم حين يفتحون متاعهم ، سيجدون ثمنه ، وسيضطرون إلى العودة لدفع الثمن ، وفي الوقت نفسه يأخذون ميرة جديدة ، لكنه لم يعطيهم إذا لم يكن أخوه معهم . إذاً سيضغطون على أبيهم ليسمح باصطحابهم بنيامين وهكذا كان ، بعد أن استوثق منهم على الحفاظ عليه .
أما كيف خطط ليحتفظ بأخيه دون أن ينتبهوا إلى ذلك ؟ :
1 (( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
2 فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ
3 ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
4 قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
5 قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
6 فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ
7 ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ . . ))(11) .
في شرع الملك كان السارق يضرب ، ويعنّف ، ويدفع ضعف ثمن ما سرقه . أما في شرع يعقوب وأبنائه فإن السارق يصبح عبداً لمن سرقه ، فعاملهم بشريعتهم لا شريعة الملك .
أما قصة سيدنا موسى في سورة طه ، وتيسير الله وحفظه له في قصر فرعون فتراها في الآيات [ 37 40 ] .
1 أوحى الله إلى أمّه أن تضعه في صندوق خشبي بعد إرضاعه .
2 أمرها بإرضاعه كي يحبه موسى ، فلا يتقبّل موسى ما يُقدَّم له من حليب المرضعات غير حليب أمه الذي استساغه ولن يرضى بغيره .
3 دفعته الأمواج بإذن الله إلى قصر فرعون ، عدو الله ، وعدو موسى .
4 كتب الله له القبول عند آل فرعون ، ليبقى عندهم .
5 متابعةُ أخته له حتى تعرف إلى أين سينتهي .
6 أختُه تدلُّ الباحثين على أمه لترضعه .
7 عودة موسى إلى أمّه بعون الله ومساعدته .
إنه تخطيط رب العالمين ، يحفزنا على ترتيب ما نريده بخطة سليمة ، وتفكير سديد .
ونلحظ التخطيط في كسر إبراهيم أصنام قومه ، حين أرادوا الخروج من المدينة في عيد لهم فأعتذر بأنه مريض فتركوه ، وخرجوا ، فاغتنم فرصة خلوّ المكان فانطلق إلى الأصنام فحطمها (( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) ))(12) .
أراد الله سبحانه وتعالى أن يعبده الناس متجهين إلى قبلة محددة ، فبيّن لإبراهيم مكان بناء البيت كي يقصده الناس حاجين وأمره بعد انتهاء البناء أن يؤذِّن فإذا أذَّن أسمع الله نداءه إلى المخلوقات جميعاً .
(( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ
أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ . . . ))(13).
فالله سبحانه خطط منذ القدم أن يكون البيت الحرام في مكة قبلة لعباده ، يحجون إليه ويطوفون حوله ويعبدون ربّه .
وقام إبراهيم وابنه اسماعيل ببناء البيت وتجهيزه لحجاج بيت الله الحرام ، ثم أذّن فسمعت النُّطَفُ أذانه فرددت ما قال .
وفي سورة النمل الآيات [ 27 44 ] :
1 عاد الهدهد إلى سليمان يحمل خبر مملكة اليمن التي يسجد أهلها للشمس ويعبدونها .
2 حَمَّلَ سليمانُ عليه السلام الهدهد كتاباً فيه دعوة إلى الإيمان بالله ، يلقيه بين يدي بلقيس ملكة سبأ ، ثم يبتعد فيراقب ردة الفعل .
3 أرسلت بلقيس هدية إلى سليمان علّه يتركها وبلادها .
4 لما أبى سليمان إلا إسلامها وقومها انطلقت إلى عاصمة ملكه زائرة .
5 أراد اختبار ذكائها فأمر بحمل عرشها إلى فلسطين .
6 حمله أحد العارفين بالله في لمحة البصر بإذن الله .
7 نكّر عرشها وعرضه عليها فلم تخطئه .
8 بنى قصراً من الزجاج الصافي ، فلما أرادت دخوله كشفت عن ساقيها ظانّة أنه ماء لشدة صفائه .
9 رأت عظمة ما لسليمان من ملك ونبوّةٍ فآمنت بدينه .
والملوك لتعاظمهم لا يسلّمون لأمر إلا إذا كان عظيماً ، فخطط سليمان لذلك بجلب عرشها وبناء القصر العظيم ليخلب لبَّها ابتداءً فتسلم له ، وكان تخطيطه موفقاً .
وقبل ذلك نجد النملة تتخذ الأسباب ، ويساعدها على ذلك سليمان عليه السلام ، فنرى سليمان ينطلق وجنوده من الجن والإنس والطير ، فيصلون إلى وادي النمل ، وكان النمل خارجاً من أعشاشه يبحث عن رزقه ، فإذا ظلَّ منتشراً في الوادي فستطؤه أرجل الجنود ، وحوافير الخيل ، وقوائم السباع ، والجيش كبير العدد ، ولن تسلم نملة منهم ، فقالت نملة لبيبة رأت من بعيد جيش سليمان يهز الأرض تحته صارخة في قومها منبهة السامعين منهم ليحذروا (( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ))(14) .
فيسمع سليمان عليه السلام صوتها وتحذيرها ، فيوقف تقدم الجيش ، ويسألُ ربه أن يرزقه شكره على نعمه التي وهبه إياها ولوالديه ، ويسأله العمل الصالح الذي يرضيه ، وأن يرزقه جنته ورضوانه ، ودخلت النملة مسكنها وتبعها النمل فخلا الجوُّ منهم(15) وفرغت الأرض ، فانطلق الملك سليمان عليه السلام إلى هدفه شاكراً حامداً . .
ويخاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوا الأسباب الماديّة والمعنوية في لقاء العدو .
أما المثال على اتخاذ الأسباب المعنوية فقوله سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
أ فَاثْبُتُوا
ب وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
ج وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
د وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
ه وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) ))(16) .
ثم نهاهم أن يكونوا بطرين أشرين يراؤون الناس ولا يخلصون لله سبحانه (( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ (47)))(17) .
فالثباتُ ، وذكرُ اللهِ ، وطاعتُه وطاعة رسوله ، والوحدةُ الإيمانية ، والصبرُ ، والبعد عن الرياء ، والإخلاصُ لله سبحانه أسباب معنوية ، إن اتخذها المسلمون نصرهم الله تعالى ، ولا أرانا في هذه الأيام الرديئة نتصف بواحدة منها . . . لذلك ترانا كالقصعة التي يتداعى الأَكَلَةُ الشرهون إلى التهامها .
والمثال على اتخاذ الأسباب المادية قوله سبحانه : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) ))(18) .
فالإعداد الماديّ يستدعي :
1 التربية البدنيّة واللياقة العالية .
2 التدريب على السلاح بكل أنواعه .
3 تأمين السلاح الثقيل ، والتدرب عليه .
4 إرهاب العدو بإظهار القوة قدر الإمكان .
5 القوة ترهب من يمدُّ العدوُّ ويساعده .
6 إنفاق المال في سبيل الله والعقيدة .
وهذا سيدنا موسى عليه السلام يرى وهو عائد إلى أهله في مصر وزوجته معه ناراً والدنيا باردة ، والمكان مظلم ، ولا بدَّ للدفء والأمان ، ورؤية من يقصدونه من الحصول على النار ، وها هو يراها من بعيد فيترك أهله قريباً من المكان ، ويسرع إلى الضوء ليقبس قبسة تفيده فيما يرمي إليه من أحد يدله على الطريق ، فقد ضلّ عنه وقد هبت ريح شديدة فرّقت ماشيته ، فهو يسعى لنار تريه إياها كما أن زوجته أخذها الطلق ، وهذا أخذ بالأسباب الموصلة إلى
الراحة ، والأمان ، والدفء . . .
وهناك يكلمه الله سبحانه وتعالى ويعرفه بحقيقته ، ويأمره أن يذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله سبحانه (( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) ))(19) . ويعطيه الله سبحانه من الأسباب المساعدة على إبلاغ الدعوة سلاحين :
أ العصا التي تنقلب ثعباناً يثير الرعب والهلع في نفوس الحاضرين .
ب التوهج الشديد ليده حين يدخلها في جيب قميصه .
كما يؤيده بأخيه هارون فهو فصيح اللسان واضح الكلام .
وينفي عنه الخوف من فرعون أن يقتصَّ منه لأنه قتل قبطياً . .
(( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا
بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)))(20) .
وتأمل معي أمر الله تعالى لموسى في النجاة من فرعون ، ثم إغراق فرعون (( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)))(21) .
(( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) ))(22) .
((فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) ))(23) .
تجد موسى عليه السلام اتخذ الأسباب التالية :
1 استنجد بربه حين دعاه أن ينقذه وقومه من فرعون وجنده .
2 أمره الله أن ينطلق بقوة اتجاه المشرق ، فسار بهم ليلاً كي يقطع مسافة طويلة قبل أن يشعر بهم فرعون .
3 وحين وصلوا إلى شاطىء البحر كان فرعون مسرعاً بجيشه يقترب منهم . فقد رأى كل من الطرفين الطرف الآخر ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ففعل ، فانفلق البحر ، وانشق طريقٌ يابسٌ بين جبلين من الماء .
4 أسرع موسى بقومه إلى الطرف الآخر وهم مشفقون خائفون .
5 وصل موسى وقومه إلى الشاطىء الآخر ، وهمَّ أن يضرب الماء ليعود البحر كما كان حتى لا يستطيع فرعون العبور إليهم .
6 أمره الله سبحانه أن يترك البحر كما هو ليدخل فرعون الطريق وجنوده ، فلما صار الجيش كلّه في الطريق أمر الله تعالى الماء ، فعاد كما كان فأغرق الكافرين .
فالاستنجاد بالله ، والدعاء له ، والمسير في الليل ، وضرب الماء ، ثم الهمٌّ بضربه مرة أخرى ليعود كما كان . . اتخاذ للأسباب .
لكنَّ التخطيط واتخاذ الأسباب لا يوصلان إلى الهدف إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى ذلك ، فعلينا التفكير وعلى الله التدبير ، وهذا هو التوكل على الله .
------------------------------------------------------------------------
(1) سورة يوسف ، الآية : 9 .
(2) سورة يوسف ، الآية : 10 .
(3) سورة يوسف ، الآيات : 11 14 .
(4) سورة يوسف ، الآيتان : 16 ، 17 .
(5) سورة يوسف ، الآية : 18 .
(6) سورة يوسف ، الآية : 23 .
(7) سورة يوسف ، الآيتان : 31 ، 32 .
(8) سورة يوسف ، الآيات : 50 55 .
(9) سورة يوسف ، الآيات : 58 63 .
(10) سورة يوسف ، الآية : 65 .
(11) سورة يوسف ، الآيات : 69 76 .
(12) سورة الصافات ، الآيات : 88 93 .
(13) سورة الحج ، الآيتان : 26 ، 27 .
(14) سورة النمل ، الآية : 18 .
(15) عاملتُ النملَ معاملة المذكر لأن الله سبحانه وتعالى حين تحدث عنهم فقال (( . . ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ . . )) جعل الخطاب
بواو الجمع وميم الجمع ، والله أعلم .
(16) سورة الأنفال ، الآيتان : 45 ، 46 .
(17) سورة الأنفال ، الآية : 47 .
(18) سورة الأنفال ، الآية : 60 .
(19) سورة القصص ، الآية : 29 .
(20) سورة القصص ، الآيات : 31 35 .
(21) سورة طه ، الآيتان : 77 ، 78 .
(22) سورة الشعراء ، الآيات : 57 66 .
(23) سورة الدخان ، الآيتان : 23 ، 24 . والرهْوُ : ترك البحر منفرجاً مفتوحاً .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.