حسين كريم قلايد (ناشط جمعياتي وباحث في علم الاجتماع) في خضمّ ما أطلق عليه «ظاهرة» الانفلاتات التي افرزها الواقع التونسي خلال هذه الفترة الإنتقالية: انفلاتات أمنية وانفلاتات سلوكية وانفلاتات إعلامية يمكن أن نقف عند مظهرين لهذه «الإنفلاتية»، رغم أنّ بعضها بدأ يسير نحو التوازن : إلى الإعلاميين :
1) الحرفية المفقودة تتجلى مظاهر المهنية المفقودة في توظيف الإعلاميين، منشطين ومحققين وصحفيين، لمواقفهم ورؤاهم من القضايا المطروحة من خلال المادة التي يقدمون أو من خلال الطرف الذي يحاورون او يسائلون او من خلال توظيف لمتغير الزمان والمرحلة، وهو خطر كبير يشير ضمنيا الى العطش والضمإ الكبير الذي يلمّ بالصحفي، الذي لا يمكنه أن يستثنى عن دائرة الكبت بكلّ تمظهراته الذي عانى منه كل المجتمع في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي حيث حرم التونسي من كل أشكال التعبير والتحرر الإنساني لعقود، لكن ذلك لا يبرّر للإعلامي الانزلاق في متاهة الانفعالات الفردية «الانفلاتية» وتصفية المكبوت.
2) بين المتلقي والباث: الحرفية المنشودة هي قاعدة العملية التواصلية عبر الإعلام، خلالها يكون «السيّد» هو المتلقي لأنه العنصر الأساسي والمحدّد في العملية التواصلية بل بدونه لا وجود لمفهوم الإعلام ، ويكون ذلك بضرورة قراءة وفهم هذا العنصر المكوّن للعملية التواصلية أي المتلقي بتحديد الطور الذي يكون قد بلغه اتجاه الموضوع المطروح (الرسالة) هذا فضلا عن تحديد خصائصه حتى تكون الرسالة التي يبعثها الباث ملائمة له adéquate ويكون المرجع دوما هو المتلقي، وحين نقول المتلقي فإننا نقصد في شموليته : أي كل الغلاف الاجتماعي والنفسي والتاريخي (المرحلي) الذي يتحرك ضمنه هذا المتلقي ونكون بذلك راعينا الخصوصيات الموضوعية للعملية الاتصالية، وتعاملنا مع المتلقي بوصفه مواطنا نحترم خصوصياته التي تميزه في استقلالية عن قناعات الباث وآرائه الذي قد لا يمتلك هذه الخصوصيات بما انه يتوجه نحو رأي عام بتنوعه واختلافاته. فالسخرية أو التحامل أو الانبهار تفاعلات مرفوضة خلال عملية البث للرسالة وهنا تكمن الصعوبة والدقة التي تفرّق بين إعلام مهني وآخر «مبتذل»، ولا مجال للحديث عن النوايا في هذا الجانب بسوئها وحسنها. إن السقوط في هذه الفخاخ الإعلامية يمكن أن تحطّم ما هو بصدد البناء من طرف كل قوى المجتمع وفاعليه من مؤسسات مدنية وسياسية وإدارة باسم حرية الإعلام والصحافة.
عندما يدرك الإعلاميّ طبيعة المرحلة التي يمر بها الباث والمتلقي أي كل المجتمع، باعتبار المجتمع شبكة مترابطة من الاتصالات، يصبح أكثر تشبّثا بالمهنية المتحدَث عنها: فالسخرية المفتعلة من رجال السياسة والنخبة تساهم في تفتيت علاقة الثقة بين المواطن والشأن العام في المرحلة التي مازالت هذه العلاقة جنينية وفي طور البناء ونحتاج خلالها لمزيد مشاركة المواطن وانخراطه في الشأن العام وفي الأحزاب والجمعيات لمزيد تنظّم وتهيكل المجتمع ككلّ. إنّ التغافل عن مثل هذه الملابسات يعمّق الهوة بين المؤسسة الإعلامية والمجتمع بدل رتقها لتكون مركب العبور نحو علاقة أكثر تصالحا بين المواطن والمجتمع من ناحية وبين المجتمع والدولة من ناحية أخرى وبين الفرد والدولة ككل بالمفهوم sociopolitique للدولة، هذا إذا كانت هذه العملية تتم عن حسن نية أما إذا لم يكن الأمر كذلك فالمسالة تسودها نزعة تصادمية أو تسعى لتكون كذلك.
ولا ينحصر دور الإعلامي في إثارة مشاغل المواطنين بطرح مسائل وحوارات حول موضوع الساعة لأن الأهم ليس في الطرح لكن في كيفية الطرح والهدف من الطرح لأن الموضوع مطروح بذاته وبقوّة وجوده.
الإعلام يعكس الواقع أو يعاكسه؟؟
الإعلام لا يصنع واقعا أومجتمعا، الواقع ينتجه الفعل والفاعل الاجتماعي، الذي لا يحدد مصداقيته خبر عابر أو بروباغندا، بل هو يفعل ذلك بناء على تطوره التاريخي وموروثه الثقافي والحضاري والرمزي وطبيعة العقل الذي بناه هذا الفاعل عبر تطوره الأبستمولوجي.
وحتى في الحالات التي يسعى فيها الإعلامي للمساهمة في «تغيير» الواقع ويستوجب حينها أن يكون متسلّحا بالأدوات العلمية والمنهجية الضرورية لفهم الواقع وامتلاك القدرة على اختراق البنى المجتمعية وتجاوز السطحية «المزوّرة» للواقع وهو ما يكسب أن يكسب الإعلامي مصداقيته مع المتلقي وجمهوره.
هذا إذا سرنا في التوجّه الذي يسمح للإعلامي بتجاوز حدود دوره، أمّا إذا أردنا المكوث في حدود الخصوصية والتميّز للإعلامي فأنّه لا يمكننا حينها ان نطلب منه تغييرا للنسق الاجتماعي او لبنية ثقافية او اجتماعية لذلك عليه أن يدرك مسبقا حدود مهمّته والغاية من كل عمل إعلاميّ لكي يتميّز الصحفي عن الكاتب والشاعر و المحلل الاجتماعي والسياسي وهنا أيضا احدى مظاهر الحرفية : هو أن نميّز المهنة ونعطيها خصوصياتها.
الإعلامي يعدّل ولا يغيّر
قد يسعى الإعلاميّ إلى تأويل حدث أو تغيير معطى أو تزييفه لكنه لا يغيّر الواقع في أنساقه او بنيته الثقافية او الاجتماعية مهما حاول، قد ينقل واقعا بمصداقية وموضوعية لكنه أيضا لا يمكنه تضخيمه او تزويقه لأنّ للواقع الاجتماعي قدرته على تحديد ذاته وحجمه وخصوصياته بأدواته الخاصة ومناهجه الخاصة به. إننا سنظلّ نؤكّد باستمرار ، كمهتمين بمجال البحث الاجتماعي، أنّ للمجتمعات البشرية بنيتها الداخلية الناتجة عن تطورها التاريخي الموضوعي، مهما كانت المرحلة التي تمر بها من مراحل هذا التطور، هذه البنية هي التي تفرز ظواهره ضمن أنساق وعبر آليات وهي التي تطوره وتعيد هيكلته او تنظيمه او تعيقه بما يتوفّر لهذه البنية من معطيات يفرزها التفاعل والديناميكية بين أفراد هذا المجتمع أو ذاك وما يوفّره موروثه الاجتماعي والأنتروبولوجي والثقافي والرمزي.
الاعلام قد يسعى لفهم هذا لكنه ليس بمقدوره أن يركب الواقع الاجتماعي او يتجاوزه مهما كانت الغاية من وراء ذلك فللمجتمع آلياته الدفاعية الذاتية لمنع ذلك . والإعلام الذي يصنع نجما آفلا في عالم الكرة أو الفنّ ويؤجّج صراعا غير موجود في حياة الأفراد هو إعلام غير فاعل قصير العمر ولا يمكنه زعزعة البنية الأساسية للمجتمع. الاعلام إذا أصبح يطوّع الواقع الاجتماعي حسب غايات لا يستسيغها هذا الأخير تحوّل إلى مجرّد آلة تقنية (كاميرا، مطبعة، حبر، سيناريو) لا روح فيه للإعلام وقد يتيه أكثر ليتحوّل إلى إيديولوجيا مزيّفة في خدمة أهداف لا يمكنها أن تعكس الواقع كما لا يمكنها أن تعلو عليه لأنّ الواقع والفعل الاجتماعي هو المحدّد لحياة البشر في نهاية المطاف وهو الذي يترك أثره وينحت ذاته على جغرافيا الأرض.
إذا أراد الإعلام لنفسه أن يكون مرآة للواقع والمجتمع وقادرا على اختراقه والوصول إلى عمقه، فعليه ا ن يكتسب القدرة على فهمه وهضمه واحتوائه ليعكس هذا الواقع ولا يعاكسه.