بات من تحصيل الحاصل أنّ التنافس على السلطة في تونس بلغ أقصى درجات التجاذب والصراع وأنّ الأطراف الّتي تتنازعها أهواء الحكم تتّجه إلى استنفاد آخر جهودها للضغط في هذا الاتجاه أو ذاك وكسب أكثر ما يُمكن من الحظوظ استعدادا للمنازلة الانتخابيّة القادمة والتي ستمهّد لمرحلة الحكم الدائم أو المستقر. طبيعة المرحلة الراهنة، كونها وقتيّة واستثنائيّة، تجعلها مرحلة على غاية من الدقّة والأهميّة وتجعلها أيضا مفتوحة على مقادير واسعة من الجدل والتوتّر على اعتبار أنّها مرحلة تحديد آليات ومستلزمات الانتقال إلى مرحلة الحكم الدائم والقطع مع الطبيعة الاستثنائيّة. ليس شيء يدور اليوم في الساحة السياسيّة ، سواء لدى «الترويكا» الحاكمة أو لدى المعارضة، على غير صلة بذلك الصراع على السلطة الّذي يتخفّى خلف كلّ التحركات والمواقف والآراء ، فالكل مجتهد اليوم لخدمة حظوظه المستقبليّة للفوز بأحد مواقع السلطة وتوفير الظروف الملائمة والمناسبة لهزيمة الخصم والإطاحة به.
لقد تحوّل الفعل السياسي في تونس إلى مسرح انتخابي بامتياز تتسابق فيه الإرادات من أجل كسب النقاط على الخصم وضمان التموقع ، مسرح انتخابي آلياته مفتوحة على كلّ الإمكانيات بما فيها من تزييف ومغالطة ونشر للإشاعة والأكاذيب وبث للفتنة وغاياته استدرار عواطف الناس بكلّ الوسائل والطرق بما فيها من تحريك لمشاعر الكراهيّة والحقد والركوب على الأحداث وحاجيات المحتاجين وضعاف الحال. إنّ ما ينتهجهُ اليوم الفاعلون السياسيّون من حراك يزداد حدّة وعنفا من يوم إلى آخر ينصبّ مداره الأبرز على تغليب أهواء السلطة والحكم بما فيها من حسابات سياسيّة وتكتيكات ورهانات انتخابيّة سابقة لأوانها على أيّة اعتبارات أخرى ، حتّى تلك الوطنيّة الّتي تهمّ استقرار الأوضاع وخدمة مصالح الناس وتحسين ظروف عيشهم وضمان سلامة البلاد وأمنها وفتح الطريق أمامها لمراكمة منجزات مسار الثورة والانتقال الديمقراطي.
إنّ غلبة الحسابات السياسيّة الحزبيّة والفئويّة الضيّقة والوهج المتصاعد للصراع على السلطة وانفتاح أهواء الحكم على أكثر من احتمال وفي أكثر من اتجاه كلّها مسائل تحتاجُ إلى مراجعات عميقة وتعديل للأوتار بشكل يُراعي طبيعة المرحلة التأسيسيّة التي تمرّ بها البلاد – وهي وقتيّة واستثنائيّة- وحداثة التجربة الديمقراطيّة والتعدديّة التي يعيشُ التونسيّون على وقعها والتي تستدعي الدفع نحو الوفاق والتوافق والمشاركة السياسيّة الواسعة والتسليم بقواعد اللعبة السياسيّة العصريّة والحديثة والتي لا يُمكن أن تُدار بعيدا عن صناديق الاقتراع وإرادة الناخبين. إنّ مؤسسات الحكم – وهي عديدة ومتنوّعة- يُمكن أن تستوعب الجميع ويُمكن أن توفّر مشاركة سياسيّة واسعة، متى كان هناك وفاق ومتى كان هناك إيمان بالديمقراطيّة والتداول السلمي على السلطة.