يُنهي اليوم المؤتمر التاسع لحركة النهضة أشغاله بالمصادقة على اللوائح وانتخاب هياكل قياديّة جديدة ، وبالنظر إلى موقع حركة النهضة في المشهد السياسي التونسي فإنّ مسار الانتقال الديمقراطي سيحوز في أعقاب هذا المؤتمر على شرعيّة جديدة، ليست هي الشرعيّة الثوريّة ولا الشرعيّة الانتخابيّة العامّة بل هي شرعيّة الهياكل والتوجّهات الجديدة للحزب الأغلبي. المتابع للشأن السياسي الوطني يستخلصُ أنّ الوضع بقي متوتّرا خاصّة بين طرفي المعادلة الديمقراطيّة أي السلطة الحاكمة والمعارضة على الرغم من انتخاب مجلس وطني تأسيسي وتشكيل حكومة جديدة وتحقيق تداول سلمي في أعلى هرم السلطة بين الرئيسين المبزّع والمرزوقي.
المتابعون يقرّون بأنّ الهياكل الّتي استلمت قيادة حركة النهضة مباشرة إثر ثورة 14 جانفي 2011 بقيت في حذر ملحوظ نجم عنه الوقوع في بعض الارتباك والتردّد وعدم الخوض والتعمّق في العديد من الملفات والإجراءات والقضايا الوطنيّة الكبرى واجتناب الحسم تفاديّا – ربّما- للوقوع في مزالق ومطبّات قد تُعمّق المحاسبة الحزبيّة وتُربك مسار إعادة ترتيب شؤون الحركة بعد سنوات الملاحقة والحصار والتهجير.
بات من الواضح اليوم أنّ الهياكل القياديّة المنحلة لحركة النهضة ، والتي كانت بكلّ المقاييس وقتيّة واستثنائيّة، كانت تسير على محك ممارسة سياسيّة جديدة صعبة جدّا فيها الكثير من الحسابات والكثير من التخمين ، فالأمور قد تغيّرت جذريّا والحركة لم تعد تلك الحركة المناضلة والمشتّتة والمطاردة بل هي على أبواب مرحلة جديدة بمهمات مُغايرة تؤهّلها للوصول إلى السلطة.
استلمت الهيئة التأسيسيّة لحركة النهضة وحكومة السيّد حمادي الجبالي الملفات الحزبيّة والوطنيّة وهي لم تكن في كلّ الأحوال في الوضع المريح الّذي يمنحها حريّة التصرّف والمبادرة، فالمهمّات كانت على غاية من الصعوبة خاصة في تجميع القيادات والمناضلين، من الخارج والداخل، وتوفير الفرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي على قاعدة سليمة عكسها مسار الانتخابات الحزبيّة المحليّة والجهويّة بالتوازي مع الضرورة المؤكّدة في موقعة الحركة في المشهد السياسي الوطني بالحجم المنتظر والمأمول منها كأكبر قوّة معارضة للنظام السابق قادرة على مسك دواليب الحكم والدولة في ظرف حرج ودقيق.
مكاسب وحصاد إيجابي ولكن...
لمّا يكون مؤتمر وطني تاريخي على الأبواب من الطبيعي أن يكون الفعل بطيئا وأن تكثر الحسابات وأن تتضاعف مقادير الحذر والخوف ومن الطبيعي أيضا أن يكون أفق المبادرة محدودا وأن يتأسّس الفعل السياسي على قاعدة تفادي أكثر ما يمكن من الأخطاء.
قد تكون الهياكل «الانتقالية» لحركة النهضة قد حقّقت الكثير من المكاسب من أهمّها:
إعادة بناء جسم التنظيم في كامل جهات البلاد واختيار هيئات إشراف محليّة وجهويّة توافقيّة مباشرة إثر ثورة 14 جانفي 2011. كسب المعركة القانونيّة وسُرعة الانتقال من النشاط السريّ إلى العمل العلني.
المساهمة في دفع الأوضاع «الثوريّة» في البلاد إلى المسار التأسيسي الجديد في ظل أعلى درجات التوافق الوطني سواء ضمن هيئة تحقيق أهداف الثورة أو الوثيقة الّتي أمضتها الأحزاب قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 تحت رعاية الأستاذ عياض بن عاشور.
كسب تعاطف دولي وإقليمي ومد جسور تواصل مع مختلف العواصم وطمأنة أصدقاء وشركاء تونس عبر تقديم الحركة لنفسها كبديل ممكن للنظام السابق قادر لا فقط على مسك حركة الشارع وتأطير غضب الجماهير بل أيضا تولّي مسؤوليّة الحكم وبدء تنفيذ مشاريع الإصلاح التي فرضتها الثورة من خلال شعارات الحريّة والكرامة والتنمية والعدالة الاجتماعيّة، وكذلك القدرة على الملاءمة بين المرجعيّة الإسلاميّة والديمقراطيّة ونواميس الحكم المدني والمحافظة على مكتسبات المجتمع التونسي خاصة في مجال الأسرة والمرأة ونبذ العنف والتطرّف ومكافحة الإرهاب. خوض غمار أوّل انتخابات ديمقراطيّة بنجاح.
بناء تحالف سياسي أمكن له تحقيق انتقال سلمي للسلطة وتجنيب البلاد حالات الفراغ أو الفوضى العارمة. الإشراف على هيكلة تنظيميّة جديدة عبر انتخابات قاعديّة وقطاعيّة ديمقراطيّة والوصول بها إلى أوّل مؤتمر علني اعتبرهُ رئيس المؤتمر الدكتور عبد اللطيف المكّي المؤتمر التأسيسي الثاني للحركة.
ولكنّ طبيعة المسار الاستثنائي والتاريخي والحرج الّذي عرفته البلاد مباشرة إثر هروب الرئيس الأسبق والّذي باغت الهياكل القياديّة لحركة النهضة وغيرها من الأحزاب، قد يكون فرض استراتيجيات عمل ظرفيّة لا تُلغي إمكانية المزايدة السياسيّة والمناورة بما فيها من توجيه للأحداث وغضّ الطرف عن البعض من الأشياء والتأنّي في معالجة بعض الملفات والقضايا، ومن المؤكّد أنّ تلك الاستراتيجيات لم تمنع من الوقوع في بعض الأخطاء أو الإخلالات أو عمليات سوء التقدير ولكنّها في المقابل ضمنت مكاسب ونقاطا إيجابيّة ولم تؤدّ إلى ارتكاب حماقات أو السقوط إلى أسوإ الوضعيات وأبقت الآفاق مفتوحة على ما هو أفضل وأحسن على قاعدة المراكمة الإيجابيّة الّتي من مرتكزاتها الاعتراف بالخطإ والسعي لتصويبه.
شرعيّة انتخابيّة ومرحلة جديدة
الآن، وقد توفّرت للهياكل القياديّة للحزب وممثليه في الحكومة «شرعيّة المؤتمر» وقد صعدت القيادة الشرعيّة الجديدة وقد توضّحت التوجّهات والخيارات الكبرى فإنّ الأعذار قد رُفعت وأنّ طرق ومسالك الفعل الحزبي والحكومي قد انفتحت على مصرعيها بعيدا عن كلّ الحسابات التي كانت محكومة بمخاوف تقريع أو انتقاد القواعد والمنخرطين بل ربّما سخطهم وعقابهم.
من المؤكّد أنّ قياديّي النهضة ووزراءها في الحكومة قد مُنحوا قدرا متزايدا من الثقة في النفس بما يؤهّلها للمزيد من الجرأة والشجاعة والتفاعل مع تطورات الحياة السياسيّة بالسرعة والنجاعة المطلوبتين.
كلّ المؤشرات، ومنذ اليوم الافتتاحي لمؤتمر النهضة، تدلّ على أنّ «شرعيّة جديدة» ستُعاضد تجربة الانتقال الديمقراطي وستكون أبرز بنودها التخلّص من التردّد والارتباك والمضي قدما في خيارات جوهريّة تفرضها المرحلة السياسيّة في البلاد من أبرزها:
1) تعزيز الوفاق الوطني وتوسيع الائتلاف الحاكم على اعتبارهما آليتي إنجاح المسار الانتقالي الثاني وترسيخ التجربة الديمقراطيّة والتعدديّة الناشئة في بلادنا ، مثلما أشار إلى ذلك زعيم الحركة الأستاذ راشد الغنوشي.
2) دعم فاعلية ونجاعة العمل الحكومي واعتماد مقاربة منهجيّة تتخلّص من الشعارات الثوريّة لفائدة الإصلاح التدريجي والمرحلي مثلما أبرز ذلك السيّد حمادي الجبالي الأمين العام للحركة ورئيس الحكومة. استحضار جدّي لمتطلبات المرحلة السياسيّة في ضمان أعلى درجات التوافق ووضوح الرؤية في أجندة العمل الحكومي وتجنّب الضبابيّة والارتباك، خياران مستمدان من شرعيّة انتخابيّة لمؤتمر حزبي كان مفروضا عليه أن يكون وطنيّا بامتياز في خدمة مسار الانتقال الديمقراطي.