مثّل منع محمد بوزغيبة من إمامة المصلين بجامع الزيتونة من قبل محسوبين على ما يعرف «بمشيخة الجامع» حدثا يجعل المعركة بين هؤلاء ووزارة الشؤون الدينية حول الجامع الأعظم مفتوحة فما هي أسباب المعركة وما هي حقيقتها؟ يوم 12 ماي 2012 تم توقيع اتفاقية استئناف التعليم الزيتوني، من قبل وزارة الشؤون الدينية ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي، وقد تعرّضت الاتفاقية إلى استقلالية جامع الزيتونة.
بداية الخلاف
إلا أنه بعد مرور شهر، نشبت ما عرفت بأزمة معرض قصر العبدلية إذ تمّ تداول تكفير الفنانين من قبل حسين العبيدي إمام جامع الزيتونة. وبدأت تصريحاته تثير غضب الدولة إلى أن خرج مستشار وزير الشؤون الدينية وقال إن حسين العبيدي هو إمام بأحد المساجد ببن عروس وأنه لن يعتلي ثانية منبر الزيتونة.
التحدي رفعه العبيدي، وتمكن من الإمامة في أوّل جمعة بعد تصريحات الوزارة إلا أن الأمر زاد تعقيدا عندما اتهمت الوزارة إمام الجامع الأعظم بتغيير أقفال أبواب الجامع واعتدائه على عدل منفذ تم تكليفه لمعاينة ما قام به العبيدي، ثم سرعان ما تم إيقافه بجهة بن عروس يوم الثالث من شهر أوت قبل أن يفرج عنه في نفس اليوم ليصرح بأن وزارة الداخلية اختطفته عندما كان في طريقه لإمامة المصلين بالجامع الأعظم، فنفت وزارة الداخلية ما قاله وتمسكت بأن ما صدر عن أعوانها لم يخرج عن إطار القانون.
إقالة الإمام
ثم قرّرت وزارة الشؤون الدينية رسميا إقالة حسين العبيدي من «منصبه» وتكليف الأستاذ الجامعي محمد بوزغيبة بمهمة إمامة الجامع الأعظم. يوم الجمعة 11 أوت 2012 رفضت ما يعرف «بمشيخة» الجامع أن يعتلي بوزغيبة المنبر وقام أعضاؤها «بطرده» بعد أن تولى بعض الشبان من أنصار العبيدي الوقوف أمام باب الجامع ومع المكلف رسميا من الدخول.
وقام «إمام الجامع الأعظم» بتكليف أحد المشائخ وهو سالم العدالي بإمامة المصلين فيما كان يرقد مريضا بعد إصابته على مستوى الكتف أثناء عملية إيقافه كما قال.
طرد المعيّن
وصرّح حسين العبيدي لوكالة فرانس براس بأنه «لن يعتلي منبر الزيتونة إلا من كان عضوا في مشيخة الجامع الأعظم» فيما رد بوزغيبة لنفس الوكالة بالقول «بدأ الناس (في جامع الزيتونة) يستمعون إلى خطب جمعة فيها تكفير وتهجم وثلب، خطب غير أكاديمية وغير راقية».
وقد استند العبيدي إلى وثيقة أمضاها باعتباره إمام الجامع مع الوزارات الثلاث بتاريخ 12 ماي 2012 مفادها أن «جامع الزيتونة مؤسسة إسلامية علمية تربوية مستقلة غير تابعة، تتمتع بالشخصية القانونية». إلا أن وزارة الشؤون الدينية اعتبرت أن جامع الزيتونة يظل تحت سلطة الدولة وهو تابع لرئاسة الحكومة هذا فضلا عن أن قانون المساجد يضعها تحت سلطة الدولة.
الأوقاف
غير أن تصريح حسين العبيدي «إمام الجامع الأعظم» للصحفيين حول الأوقاف أثار تخوف الحكومة إذ قال إن مشيخة جامع الزيتونة تطالب باسترداد الأوقاف التي كانت تابعة للجامع، وقال أيضا إن «نصف الأراضي الخصبة في تونس هي أوقاف تابعة لجامع الزيتونة». وبالتالي انتقلت المعركة حول الجامع الأعظم، وفق المراقبين من معركة الإمامة إلى معركة السيطرة على أكثر الأراضي خصوبة في تونس، وبالتالي امتلاك سلطة «الإقطاع» العقاري.
والأوقاف جمع وقف أو حبس وهو يعني في المعاجم حبس العين والتصدق بالمنفعة منه وقد عرّف وكان يتم حبس بعض الأملاك وتخصيص منافعها لأغراض مثل العلم ومساعدة المحتاجين ومعالجة المستحقين والتصديق والعناية.
وقد ورد في دراسة أجراها الدكتور منير التيلي وأمين بن صالح واسكندر الشريقي في فيفري 2012 بمناسبة ندوة «التجارب الوقفية في تونس الواقع وبناء المستقبل» بأن الوقف لغة يعني الحبس والمنع عن التصرف ويقال وقفت كذا: أي حبسته ومنعته، وتستعمل مجازا بمعنى الاطلاع أو الإحاطة والحصر وتأتي أيضا بمعنى أحبس لا حبس، عكس وقف، ومنه الموقف لحبس الناس فيه للحساب ثم اشتهر إطلاق كلمة الوقف على اسم المفعول وهو الموقوف، ويعبر عن الوقف بالحبس، ويقال في المغرب: وزير الأحباس أما اصطلاحا فنجد بعض الاختلافات بين المذاهب الإسلامية.
وقد اتسع نطاق الوقف في العهد العثماني لإقبال السلاطين وولاّدة الأمور في الدولة العثمانية على الوقف وأصبحت له تشكيلات إدارية تُعنى بالإشراف عليه. غير أن تلك الأوقاف، ورغم الرسالة التي وجدت من أجلها، إلا أنها لم تسلم من عمليات الاستيلاء والفساد وسوء التصرّف والمعاملات الخاصة وقد تسببت في العديد من المشاكل خاصة بين الورثة وصدر سنة 1957 أمر مؤرخ في 18 جويلية ألغى نظام الأحباس وقد نص الفصل الأول على أنه «يمنع التحبيس الخاص والتحبيس المشترك ويعتبر لاغيا كل تحبيس من هذا القبيل».
وقد كان للوقف أهمية كبرى، أعطت لبعض السلاطين والأئمة والأولياء سلطة على الناس. وكان جزء من سلطان الجامع الأعظم متأتيا مما يملك وما كان يقوم به من خدمات فضلا عن دوره العلمي والحضاري والديني. وقد صرّح إمام جامع الزيتونة المقال حسين العبيدي بأن مشيخة الجامع تطالب باسترجاع «الأوقاف» التابعة للزيتونة والتي تم انتزاعها في عهد بورقيبة وقال أيضا إن نصف الأراضي الخصبة هي أوقاف على ملك الجامع.
السلطة
هذا التصريح، جعل السلطة تأخذه محمل الجد فالأمر يعني أن جامع الزيتونة يريد القائمون عليه أن يكون مستقلا تماما عن الدولة، وبالتالي فإنه سوف يتقاسم معها الآلاف من الهكتارات من الأراضي الخصبة و«الاستراتيجية» في العاصمة وخارجها وهنا سوف تتدعم سلطة الجامع الأعظم، فيكون له شأن في كل الحياة العامة من العلم والدين إلى الاقتصاد والسياسة وبالتالي يتم تقاسم السلطة وهو ما لا ترضاه أي سلطة.
مليارات في الميزان
فالأوقاف التي يريد العبيدي عودتها إلى الزيتونة تقدّر بملايين الدينارات وهي سلطة مالية وعقارية حقيقية وبالتالي فإن المعركة ليست دينية لأنه لا وجود لاختلاف بين إمام الجامع والحكومة أو القائمين على الحكومة اليوم حول الإسلام وأركانه وقضاياه، وعموما يسود شبه اتفاق بين التونسيين حول عقيدتهم الإسلامية فأي مبرّر ل«القتال» من أجل إمامة الجامع الأعظم وبالتالي قيادته غير الجاه والسلطان؟
مشروع مجتمعي
سالم العدالي وهو أستاذ من الجامعة الزيتونية وأستاذ العقيدة الإسلامية وعضو من أعضاء مشيخة الجامع، وهو الذي عوّض حسين العبيدي في إمامة الجامع يوم 10 أوت 2012 سألناه عن رغبة ما يسمى بالمشيخة في إعادة الأوقاف إلى سلطة الجامع، فقال: «إننا لا نطالب بهذه الأوقاف، ولكن ما يقوله إنه بعد أن يثبت الجامع جدارته وتنجح التجربة فإن الأمر سيكون موكولا للمجتمع والدولة». «فالأوقاف كثيرة ومرّ عليها قرابة الخمسين عاما وبالتالي لا يمكن حصرها».
وقال أيضا «إن التعليم الزيتوني هو مشروع مجتمعي جاء استجابة لرغبة الشعب التونسي، والدولة مثلما تهتم بالإنارة والصحة عليها أن تهتم بجامع الزيتونة» وحول جرد هذه الأوقاف «قال إننا لم نفتحها إطلاقا، والرغبة في إثارة المسألة تتولد من فعالية الفروع وعندما يثبت المشروع جدارته ونجاحه» وأضاف «بأنّ مقومات النجاح بيد الشعب وحول الصراع على الجامع مع السلطة وخاصة وزارة الشؤون الدينية قال سالم العدالي «إنها تجاذبات عادية لطيفة والمسألة ستحل بالحوار». وحول تصريحات حسين العبيدي المطالبة باسترداد الأوقاف قال إنها تصريحات للفت النظر لا غير.
غير أن تصريحات العدالي الملطفة للصراع لا تخفي حقيقة ما يجري، حول السعي إلى السيطرة على أهم المساجد إفريقيا وعربيا وحتى دوليا على الاطلاق نظرا لدوره التاريخي في نشر قيم الدين الإسلامي وفي نشر العلم بين الناس من خلال مركزه أو فروعه في جل أنحاء البلاد التونسية وإشعاعه عربيا ودوليا وحتما سوف تكون ملكية الاف الهكتارات من أهم الأراضي في تونس ركيزة هامة لسلطة أوسع لن يسلم منها حتما السياسي. إنها السياسة عبر البوابات المختلفة، إنها السلطة.