تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملفات «الشروق» الثقافي : بن علي هرب والتجمع انحل - هل تحرّر المثقفون؟
نشر في الشروق يوم 21 - 08 - 2012

الكلّ يؤكد دون استثناء على وجود تحالف استراتيجي عميق وطبيعي بين المثقف والثورة... لكن يبقى السؤال الحارق حول كيفية تعاطي المبدع المثقف مع قضايا وشواغل واهتمامات الشعب الذي ينتمي إليه..

فالمثقف مطالب بالمبادرة من خلال التعبير عن روح الناس وأحلامهم.
كان المثقف قبل ربيع الثورات محاصرا من رجال السياسة والسلطة والتوجهات الحزبية والتطرف الديني من خلال تسليط شتى أشكال التخويف لأجل تركيعه وتحويله إلى أداة طيعة في خدمة أجندا معينة... هذا الحال الذي كان عليه جل المثقفين تغيّر بشكل جذري بإعلان انتصار إرادة الشعوب الحرة على كل أساليب الاستبداد والقهر...
ليطفو على السطح السؤال التالي: إلى أي مدى كان لانتصار إرادة الشعوب تأثير إيجابي على المثقف؟ وهذا هل يعني أن نسائم الحرية وفرت للمثقف الأكسجين الذي افتقده أيام الظلم والقحط للانطلاق في الأفق الرحب محلّقا بإبداع يؤسس لحياة كريمة قوامها التفاؤل والإرادة الصلبة والتوق إلى الأفضل والأرقى والأجمل... فهل حررت الثورة المثقف في تونس؟

المفكّر يوسف الصديق : المثقف انخرط في دوامة الدين المدجّن خوفا على سلامته

وُلد المثقف التونسي في بداية القرن الماضي مع كوكبة من المثقفين من «جنسه» الديني واللغوي والحضاري فقد كان من غير الممكن أن نتصور الثعالبي والطاهر الحداد دون أن نفكر في قاسم أمين وأمين الخولي وأحمد شوقي حتى طه حسين والزيّات.. إلخ.

وكان هؤلاء أصحاب قضية حضارية يناضلون كما يناضل المسلّح في الجبال ضد المستعمر والمتخلف، ثورة ثقافية عارمة شاملة بدأها من الناحية الدينية والمدنية في ان محمد إقبال ومحمد عبده والأفغاني والطهطاوي والكواكبي وقادها في الشوارع رجال ونساء مثل هدى شعراوي وغيرهم.

وقد أفرزت هذه الثورة الثقافية بحق معالم كنت أظن أنها لن تمحي إفرازا لقيم جديدة ونقدا لحركة التقدّم العالمي في الغرب بالخصوص ولكني أظن أنها بدأت تمحي عند مثقفينا سواء في تونس أو المغرب العربي أو في المشرق، يكفيني في هذا التحرير المقتضب أن أغنية نظمها أحمد شوقي الذي أضعه ضمن هذا التحليل وتعنيها أكبر أهرامات الفن العربي أم كلثوم وتمدح سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم وتبثها على الأقل في كل أنحاء العالم العربي.... أتذكرون ماذا تقول هذه الأغنية؟

الجواب: إن سقراط هو أصل التوحيد الذي جاء به محمد!!!
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة
بالحق من منن الهدى غرّاء
بُنيتْ على التوحيد وهو حقيقة
نادى بها سقراط والقدماء
ويواصل هذا التحليل الشعري العجيب لما يمكن أن يكون كفرا فادحا هذا اليوم فيقول الشاعر:
ومشى على هدي الزمان بنورها
كُهّان وادي النيل والعرفاء

نرى الآن ونسمع أن أقلّ ما كانت تتندّر به الأخبار عند الجاحظ والتوحيدي وجمهرة الكتّاب الكلاسيكيين أصبح يمنع في الحديث العام كما يمنع في وسائل الإعلام وأصبح المثقف في القنوات العلمانية ك«نسمة» وغيرها يسلّط علينا نصف ساعة من التخريف والبديهيات في أن الله يأتي بالأمطار ويخلق الحيوانات وينمي الزرع ويسيّر الأعاصير ويعطي الحسنات لمن أحسن دون أي غوص في معاني هذا الدين الحنيف العميق.

نحن نعلم أن ثورات المجتمعات اليهودية والمسيحية قامت أولا على مجابهة العلمانيين والمتدينين واستقرار اختلافهما على الأرض المثقفة في بلادهم ثم كذلك على تعميق الفلاسفة والمفكرين للمفهوم الديني أصلا فتمّ إبعاده أو تحييده على الأقل على البعد التعبدي في هذا الدين أو ذاك.

أما مثقفونا وقد جاء البعد الديني في هذه الثورة في زخم منقطع النظير يخلي الساحة من كل فكرة تميزه فقد انخرطوا في دوّامة الدين المدجن خوفا على سلامتهم أو وظائفهم وكراسيهم.
هؤلاء الجبناءالذين يدعون الثقافة وهم كثر هم الذين شاهدوا دون أن يحركوا ساكنا شعلة الثورة التونسية وثوراتها المقبلة ذلك الذي قال ولم ينصروه.
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر

الشاعرة والجامعية آمال موسى : المثقف التونسي بين التحرر والإدانة والارتهان!

إن هذا السؤال يقوم على مجموعة من المواقف الحاسمة لعل أولها الاعتراف المبطن بأن المثقف التونسي كان قبل حدث الثورة مكبلا وسجين واقع حرياتي منعه من الاضطلاع بدوره الطليعي سواء على طريقة أنطونيو غرامشي صاحب مفهوم المثقف العضوي أو بناء على أطروحات فكرية أخرى تستند الى أنموذج مثالي لمثقف مخصوص جدا.

إذن هذا السؤال يقوم على فرضية مفادها أن المثقف التونسي لم يقم بدوره قبل الثورة ومن ثمة فإن رصيده النضالي في علاقته بالسلطة السابقة كان أقل من المأمول بل إن البعض يعتبر تقاعس المثقف التونسي عن القيام بدوره من الأسباب الرئيسة لحالة التخلف السياسي والقيمي والتنموي الذي وصلت اليه بلادنا.
إن مثل هذا التشخيص لصورة المثقف التونسي قبل الثورة وهو التشخيص الذي يستبطنه السؤال المطروح ، يقودنا من جهة أخرى الى الاستنتاج بأن حدث الثورة في حد ذاته يمثل إدانة صريحة للمثقف التونسي خصوصا أنها ثورة بإمضاء فئات عمرية واقتصادية مهمشة تعاني من إكراهات اقتصادية في المقام الأول.

لذلك فإن الثورة أدانت المثقف التونسي وحملته من الأوزار الحقيقية والمبالغ فيها الشيء الكثير ، فهي على المستوى النظري حررته باعتبار أن الحرية احدى مضامينها الرئيسة ومن جهة ثانية أخذته رهينة يتم توظيفها من حين الى آخر من قبل أطراف عدة مختلفة المواقع، أي أن المثقف الذي يريد إعادة صياغة بنود علاقته مع السلطة وغيرها هو مهدد بحملات تشهير مجانية في صورة تعارض ما ينادي به من أفكار ومواقف مع مصالح البعض سواء من الجانب الرسمي أو غيره.

إن واقع المثقف التونسي اليوم لا يخلو من عقبات وهو واقع مازالت تتحكم فيه العقلية التونسية والمنظومة القيمية والنفسية المتخلفة فالثورة ليست عملية تطهير سحري بقدر ماهي حدث تاريخي فاصل وحاسم يساعد الأمم الجادة والعميقة على تحقيق نقلة مهمة في سياقها القيمي والثقافي.

ولكن هل يعني هذا أن ينتكس المثقف التونسي؟
الإجابة السريعة والقاطعة بالنسبة إليّ : لا
لقد آن الأوان كي يكون المثقف التونسي مصدر الحرية وحارسها وممارسها ومن حق كل مثقف أن يراجع مواقفه وقناعاته وأن يبدأ من جديد، فالثورة حدث فعلي ورمزي يمنح كل التونسيين فرصة الولادة من جديد.
لذلك فإن المثقف التونسي مطالب بالتحرر الذاتي قبل كل شيء وهو ما سيمنحه طاقة وقوة للبناء والابداع.

الروائي الناصر التومي : المثقف لا ينتظر أن تمنح له الحرية

الكل يعلم أن الثقافة بصفة عامة معارضة للسائد والعادي والتقنين، ومتمردة حتى على الشرائع السماوية أحيانا، وتستمد شحنتها التأثيرية وإشعاعها من خلال طرحها للمسائل بشكل مغاير إضافة لما تصطبغ به من جمالية ساحرة، مع قدرة على المراوغة والمخاتلة.

هي أداة نقد فعالة، تندد بوسائلها الخاصة لبعض السلوكيات سواء المتعلقة بالمجتمع والسلطة.
الثقافة قدرها أن تلامس الحياة من خلال فضح الإخلالات الإنسانية عموما، لذلك فقد حاربت السلطة من عهد سقراط الثقافة مرورا بالكنيسة ، وكذلك الشأن مع التاريخ الاسلامي مع ابن المقفع وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، ولا يزال حال الثقافة مع الدول المتخلفة على هذا المنوال الى يوم الناس هذا.
والسلطة على الدوام لا هم لها إلا تدجين الثقافة لتكون الى جانبها، لذلك تعمد الى عديد الوسائل لضمان ولائها سواء بالعقاب الجسدي أو المعنوي لمن يرفضون التوصيات، ومن جانب آخر تعمد الى بعض أصحاب النفوس الضعيفة والوصوليين الموسومين بمثقفي السلطة، فتنفخ في صورهم ليتصدروا المشهد الثقافي ولا يسمحون بمرور إلا ما ترضى عنه السلطة.
المثقف التونسي في عهد بن علي خاصة عوقب بالإهمال والتهميش لأنه لم ينخرط بالكلية في خدمة نظامه، باستثناء أقلية،لذلك أوقف جوائز وزارة الثقافة السنوية منذ سنة 1997 واكتفى بجوائز وأوسمة للذين أظهروا الولاء والتبعية، توزع أثناء الاحتفالات باليوم الوطني للثقافة، لا إكراما لهم، ولكن لحضورهم لمدعوين لمشاهدة ما يتلقاه من دروع وتنويه من بعض الجامعات والجمعيات الدولية المشبوهة، وبمقابل يدفع من أموال المجموعة الوطنية تؤمنها وكالة الاتصال الخارجي وسماسرتها وتم في زمنه منع عديد الكتب عن الصدور، ومعاقبة أصحابها بالإهمال، وافتقدنا كليا الرأي المخالف، إلا ما يمجد ويرفع من شأن الجالس على هرم السلطة وإنجازاته التي لم يأت بها زمان، بينما الخراب ينخر في كيان البلاد، إضافة لفقدان التشجيع الجدي للثقافة، واقتصر الأمر على المهرجانات التي تستهلك أغلب ميزانية وزارة الثقافة، أما الكتاب فيكتفي باقتناء لبعض النسخ التي لا تغطي نصف تكاليف الطباعة.
المثقف التونسي ما كان حرا، لأن المناخ السياسي كان يشكو من علل كثيرة ومستديمة ومميتة لذلك ما كان ليسمح لهذا المثقف أن يكشف المستور، وهكذا دائما يكون التعامل مع الثقافة والمثقفين في الدول المستبدة الفاسدة، بتكميم الأفواه وطمس العقول إذا لزم الأمر، حتى تواصل السلطة الظالمة بسط سلطانها الجائر دون منغصات، وإذا تمرد أحد المثقفين وغامر، واستطاع بأي شكل من الأشكال أن يصرخ بالوجع، تجد السلطة له ألف تهمة وتهمة تلفق له الى حين، وبذلك ينكمش كل من سولت له نفسه سلك نفس الطريق، ونظرا فإن مثقفنا دائما من فئة المعسورين فإنه يسهل كسره وإسكاته.
بقي لي في هذه المسألة رأي خاص بي، فأنا على اقتناع أن الحرية لا تعطى في مجال الإبداع خاصة أدبا قيما، بل بالعكس فالروائع الأدبية لا تكتب إلا في مناخ استبدادي ظالم، لأن هذا الاستبداد هو الذي يعطي الشحنة الإبداعية الحقة، فالكتابات التي كتبت في السجون والمنافي والملاحقات هي التي اشتهرت أكثر في العالم.
ففي مجال الأدب فإني أعتبر أن الذي يحجز له عمل فإنه لم يبلغ بعد مرتبة الكاتب الفنان الملهم الذي يستطيع أن يراوغ الرقيب لتقنيات فنية تؤهله لصدور عمله رغم ما تضمنه من نقد للسلطة، فالأدب ليس بالإفصاح بل بالتلميح، وليس بالشعارات ولكن بالرموز، واستغلال توريات الأسطورة والتاريخ ورموزه، وحتى حركة الحيوان وسلوكياته، فالمباشرتية غير مقبولة حتى من قبل القارئ العادي لأنها معدومة الفن.
لم نغلق السنتين بعد حدث الثورة، ولم نلاحظ كتابات ذات شان ولعل ذلك يعود الى وقفة التأمل الخاصة بالمثقفين وعدم التورط في أحكام لسياسة جديدة لم تتضح معالمها ولم تنضج بعد ولا تزال بين مد وجزر ولم نسمع بأعمال تم حجزها وما نقرأه في الصحف وما نشاهده في وسائل الإعلام يشير الى أن المثقف التونسي تخلص كليا من عقدة كبت الحريات ويصدع بما هو مقتنع به وهذا جيد لكن ما يؤسفني تورط عديد الكتاب بواسطة «الفايس بوك» في تعليقات على الساسة الحاليين ليست من شيم المثقفين والمبدعين، بل تكاد تكون من تعليقات العوام في الأزقة والحارات، وهذه في نظري سقطة كبيرة، فدور المثقف المعارض أن يدحض الحجة بالحجة، بخطاب نير مع إعطاء الحلول والبدائل، بلغة مهذبة ولقد تفاجأت بتعليقات يندى لها الجبين ومخزية من كتاب كنت أراهم فوق هذا المستوى بكثير.
في الآن نفسه لست مع الحرية التامة للمثقف والمطلقة، فهناك مقدسات لا يمكن التعامل معها مثلما نتعامل مع حياتتا العادية، فأغلب المثقفين متأثرون بلوثة الفكر الغربي الذي يرفض وضع حدود على إبداعه حتى ولو كان يمس المعتقدات الدينية ، لكننا كمسلمين فإن ثقافتنا الدينية تفرض علينا احترام الذات الإلهية، والرسل والكتب السماوية والملائكة وأمهات المؤمنين والصحابة وقدسية الكعبة الشريفة والمسجد النبوي الشريف وبيت المقدس، ونعاقب في الدنيا والآخرة إذا أسانا الأدب مع هذه المقدسات ووضعنا من قدرها.
ولسائل أن يسأل هل أتم المثقف أو المبدع كل مواضيعه الحياتية وهي لا تعد ولا تحصى حتى يلتجئ الى التعدي على هذه المقدسات والتشكيك فيها أو السخرية منها ونقدها.
المثقف لا ينتظر أن تمنح له الحرية بأي شكل من الأشكال، بل من رسالته تحدي الكبت السياسي وخلق عالم أدبي سحري خاص به ينفذ منه إلى غايته في طرح مواضيع مجتمعه المصيرية ونقدها، لقد كانت كل أعمالي الروائية مركزة على نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد، ولم يحجز لي أي عمل ذلك لأني لا أكتب مقالات أشهر فيه بالسلطة، بل أنا مبدع أصل الى نفس الغاية التي يصل اليها المقال لكن بفن وبرموز وتورية ومخاتلة ، وبالتالي تنجو من سطوة الرقيب الذي يتربص بالمثقف.

الكاتب البشير السالمي : الثورة نعمة ورحمة على المثقف التونسي

قد لا نجادل في كوننا تحررنا معشر المثقفين من كابوس الاستبداد السياسي، الذي كان يمثله النظام البائد برأسيه البورقيبي والبنعلي قبل 14 جانفي 2011، وتخلصنا أو كدنا من كبار رموز الفساد الاجتماعي والمالي واخترنا بكل حرية بعد نحو تسعة أشهر حكامنا الجدد.

وفي الأثناء هبّ المثقف بمختلف انتماءاته السياسية وقناعاته الفكرية يؤسس البديل، من أحزاب وجمعيات ومن صحف ودوريات ومن قنوات اذاعية وتلفزية ومن مواقع الكترونية كما هبّ خاصة يؤلف الكتب والمسرحيات ويبدع الأشعار والأغاني بحرية مطلقة بعيدا عن اي رقيب وحسيب، بل هبّ كل من تشملهم كلمة مثقف من قريب او بعيد يتحاورون ويتناظرون في كل الفضاءات والجهات ويطلقون أحكامهم على علاتها بكل جرأة، بل بكل تهوّر أحيانا، دون ان يمنعهم مانع أو يردعهم رادع.
اي ان الثورة لم تحرر المثقف من قيود العهد البائد فحسب، وإنما أطالت لسانه ورفعت صوته ايضا وجعلته يمارس حريته قولا وفعلا منتقما من عقود الكبت والخوف، وأدلى كل بدلوه حتى المثقف الخامل والنكرة صنع من ضعفه قوة ولو وهمية، ولبس لبوس الثائر فكانت الثورة نعمة ورحمة، أعتقت أصناف المثقفين وأعادت اليهم ما فقدوه من ثقة بالنفس، وأنقذتهم من مذلة الجبن وعار الانهزامية.
ولنا هنا ان نتساءل: ماذا أضاف المثقف للثقافة في مفهومها الواسع والشامل بعد تحرره وانعتاقه؟
هل شهدت على يديه تغييرا جوهريا او حتى نسبيا في شكلها ومضمونها وأهدافها ولو في مستوى تدخلاته ومطلبياته التي لا تكاد تتوقف؟ وهل حاول المثقف، ونعني به خاصة ذلك الذي يحتل مكانا مؤثرا في مواقع صنع القرار، مثل المجلس التأسيسي والحكومة ورئاسة الجمهورية، ان يقتبس من تجارب الثورات الناجحة شرقا وغربا كما وقع في الصين والهند، وحتى في العراق وإيران في سبعينات وثمانينات القرن الماضي؟
إن الواقع اللغوي والثقافي يشهد ان بلادنا مازالت بعد عشرين شهرا من الثورة، تجترّ التبعية اللغوية والثقافية اللاتينية المسيحية الماسونية ومازلت ماضية قدما في التذيّل للمستعمر الفرنسي القديم الجديد، وبالأمس وتحديدا يوم 20 جويلية الماضي صدر في جريدة «الفجر» مقال يندد بنخبة المثقفين في الهيئة الوطنية للمحامين الذين عمدوا الى استعمال اللغة الفرنسية وحدها، أثناء القيام بأنشطتهم حول الخطإ الطبي وحول الابداع والفكر والفن، من 24 فيفري الى 16 جوان 2012 ومن 28 من الشهر الماضي نشرت جريدة «الشروق» بيانا شديد اللهجة تدين فيه جمعية الدفاع عن اللغة العربية إهانة الرئيس الحالي للجمهورية للغة العربية وللشعب التونسي الذي يتكلّم بها منذ 14 قرنا، وقد جاء في هذا البيان «إن جمعية الدفاع عن اللغة العربية تدين اعتداء رئيس الجمهورية على لغة الضاد، وقيامه يوم 26 جويلية الماضي بإلقاء خطابه أمام البرلمان الفرنسي باللغة الفرنسية وتعتبر ذلك انحرافا عن مسار الثورة وسقوطا في التوجه الفرنكفوني الخطير المكرس للتبعية اللغوية والثقافية للمستعمر الفرنسي وترى في صنيع رئيس الدولة في زيارة رسمية باسم الشعب التونسي. واعتماد خطابه على اللغة الأجنبية مخالفة فظيعة للدستور والميثاق الوطني ومبادئ الثورة وأهدافها».
وهكذا يمكن القول أمام غربة اللسان الوطني والقومي والديني ولسان ثقافتنا وتراثنا وحضارتنا في عقر داره وفي كافة مفاصل القطاع الخاص وجانب كبير من المؤسسات العمومية دون ان يحرّك راكبو الثورة اي ساكن لتغيير الوضع واصلاح الحال ان ما تم حتى اليوم هو مجرد انتفاضة للمعذبين في الأرض والمهمشين وضحايا غياب العدالة الاجتماعية. أما الثورة الثقافية التي تحرر عقولنا المتكلسة الواقعة طوعا او كرها تحت ضغط الانبهار الأعمى بالأجنبي. أما الثورة الخلاقة بالفعل والناسفة للتبعية اللغوية والثقافية المزمنة لفرنسا والفضاء الفرنكفوني فإنها لم تحدث بعد ولعلها لن تحدث مادمنا عاجزين عن القيام بها نحن معشر المثقفين.

الشاعر : محمد الخالدي - من يحمل أنقاضه في داخله لن تحرره كل ثورات العالم !

هل حررت الثورة المثقف؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من التذكير بأن المثقف، وأعني هنا المثقف الحقيقي، لا بد أن يكون حرّا وبالتالي لا يحتاج الى من يحرّره.
نعم الثورة قد تمنحه مساحة أوسع من الحرية لما توفره له من مناخ ديمقراطي يساعده على التعبير عمّا يريده دون الخوف من عصا الرّقيب، هذا في المطلق أما إذا أخذنا الساحة التونسية كمثال، فإن المشهد يتغير تماما، فأغلب المثقفين كانوا جزءا من السلطة، لا بمعنى المشارك والفاعل فيها بل بمعنى الولاء فمثقف السلطة يعتقد أن دوره هو إظهار الولاء ولا شيء غير الولاء لأولياء نعمته، فهو، بهذا المعنى، عبد مسخر لخدمة السلطة والقيّمين عليها، ولم يفكر في يوم من الأيام أن يكون له دور.
ومن هنا كانت النظرة الدونيّة للمثقف التي كرّسها بن علي وأجهزته فالشاعر بوهيمي أو «كلوشار» والجامعي وصولي وانتهازي والصحفي طمّاع الى آخر الأوصاف، إن السلطة ليست وحدها المسؤولة عن تشويه صورة المثقف، فهذا الأخير بمواقفه المتذبذبة وتملّقه قد ساهم، هو الآخر، في رسم هذه الصورة الكاريكاتورية.

فليس غريبا، والحال هذه، أن تحتقر السلطة «مثقفها» وأن تنظر إليه نظرة دونيّة رغم ما يقدّمه لها من فروض الطاعة والولاء... والمحزن حقا أن هذه النظرة لم تتغيّر بعد 14 جانفي، فالسياسيون الجدد «سلطة ومعارضة» مازالوا ينظرون الى المثقف نظرة دونيّة، فالأحزاب ذات التوجه الديني ترى في الثقافة رجسا من عمل الشيطان ، وأما الحداثيون واليساريون فيعتبرونها حشوا وثرثرة لا طائل من ورائها وهنا أيضا يتحمل المثقف المسؤولية كاملة، ليبرهن مرّة أخرى على هشاشته فحتى بعد الثورة لم يستطع أن يلعب دوره، أي أن الثورة لم تحرّره ، لأنه ببساطة لم يحرر نفسه فمنذ نصف قرن أو أكثر كان مجرد ذيل للسلطة، ومن الصعب أن يتحرر بين يوم وليلة من هذه التركة الثقيلة، تركة الولاء المطلق للسلطة.

فلا نستغرب إذن أن يغيّب، وهو ما نلاحظه هذه الأيام، حيث استولى السياسيون الأميّون على المشهد الإعلامي فيما ظلّ المثقف الذي لم يستطع افتكاك مكانته مجرد متفرج.

ومن مظاهر عبوديّة المثقف التونسي، وهي بالمناسبة ، كثيرة ومتعددة، تغيير مواقفه دون خجل.
فهو مع «الواقف» وكدليل على ذلك هذا الحشد من الشعراء «الثوريّين» الذين يصمون آذاننا بمناسبة وبدون مناسبة بقصائدهم الحماسية جدّا و«الثورية» جدا، وعندما تبحث في سجلاتهم تكتشف أنهم كانوا من أزلام نظام بن علي ينافحون عنه ويتباهون بإنجازاته وأن أغلبهم كانوا إما من المناشدين وإما من الموسمين.
هل حررت الثورة المثقف؟
كلاّ، فمن يحمل أنقاضه في داخله ينوء بها لن تحرّره كل ثورات العالم ما لم يحرّر هو نفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.