فوزية العلوي، شاعرة لها حضور خاص في المشهد الشعري التونسي والعربي، تنحت في اللغة بحثا عن صوتها الخاص. وقد أصدرت مجموعة شعرية جديدة بعنوان «حرّة» عن دار سحر. وقد رصدت فيها تداعيات الأنتفاضة الشعبية العارمة التي أنطلقت من الوسط الغربي لتنتشر في كامل البلاد فاتحة صفحة جديدة في تاريخ تونس. الشروق التقتها في هذا الحوار.
ماذا أضافت الثورة لفوزية العلوي الشاعرة والإنسانة؟
عشت الثورة بكلّ جوارحي وبكل وعيي وعقلي ووجعي ووجلي وفرحي. عشتها وهي بدأت تخيّم بظلالها على آكام القصرين، وترسل رائحتها الخليط من دم وقمح ومن بارود وزعتر.عشتها من وقت أن تجمّعنا أعدادا قليلة في ساحات الاتحاد العام التونسي للشغل، ومنذ بدأ التلاميذ في معهد المنار يصرخون عند كلّ راحة بالروح بالدم نفديك يا تونس، ومنذ أن بدأت سيارات الشرطة تعسكر أمام المعاهد ويمارس المأجورون تهديداتهم للتلاميذ والأساتذة ويدفعون بالعمال إلى الإدلاء بشهادات مزورة عن النقابيين والمعارضين من الأساتذة والمعارض في عهد بن علي هو من لم ينخرط في حزبه.عشت الثورة سيولا هادرة من أبناء القصرين وهم يطلعون من كل حدب وصوب وينبجسون من كلّ مكان حتى لكأنّ الأرض تتنفس بهم، عشت الثورة والناس كأنّما ولدت ساعتها من رحم الشمس يشعون ويحرقون كلّ من رام صدّهم أو ثنيهم عمّا كانوا قرّروه، عشت الثورة برعبها ووحشية الرّصاص الخائن وهو يفتك بالأجساد الغضّة، وهو ينتهك أرواح الأبرياء الذين نزل الكثير منهم يستطلع الخبر فلم يكن بإمكانه نقله لذويه إلا عبر قامته الممزقة والملفوفة في حرقة من فقدوه.عشت الثورة كحلم أسطوري لم أكن أتصوّر يوما أنه يتحقق، حلما كنت أردده مع أغاني الشيخ إمام ومارسال خليفة متصورة عشتها أنّ هذا وإن تحقق فلن يكون في زمني ولن أشهده.
أما عن الثورة فما أضافت لي؟فإني أقول :لقد أكّدت لي أن الشعراء كانوا أنبياء وأنّ صفاء أرواحهم هو الذي ألهمهم ما نطقوا به وهو الذي جعل الشابي يردّد ذات يوم إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر والثورة أكّدت لي أن السيول البشرية إذا انطلقت فلن تتوقف الا إذا دكت الحصون والقلاع. والثورة جعلتني أوقن أنه ليس أجبن من السياسيين والمنظرين والمثقفين إلا من رحم ربّك، وأنّ الذين ثاروا فعلا هم أولئك الذين لا مصالح لهم يخشون عليها ولا تجارة يخافون كسادها ولا أموال يرهبون عليها من التجميد الذين ثاروا هم الحفاة العراة الذين لا يعرفون كيف تعقد الصفقات وكيف يقع تهريب الأموال، أولئك الذين إن سألتهم عن أبسط القوانين التي تحرّك الاقتصاد ضحكوا ولم يجيبوا. الثورة علّمتني أيضا أن الشعب التونسي تعرّض الى مؤامرة كبيرة وأن المستفيدين حاليا من الثورة هم الذين لم يقدموا شيئا ولكنهم حصلوا على كلّ شي. هذا قليل مما أضافته الثورة لفوزية الإنسانة أمّا عن الشاعرة فقد واكبت الإنسانة في كل خطوة وفي كلّ وجع وفي كل هبّة وفي كلّ دمعة وفي كلّ مراحل الحلم الكبير ولقد كتبت عدّة نصوص شعرية ونثرية وكانت الحصيلة ديوان «حرّة» صدر عن دار سحر للنشر منذ شهر تقريبا وأرجو من الله العلي القدير أن يهبني العمر والظروف لأنشر شهادات في الثورة.
ألا تشعرين بالإحباط من تفاقم المشاكل الاجتماعية إلى حد يدفعني إلى التساؤل عن جدوى الكتابة؟
المسألة هنا طويلة وشائكة ومعقّدة، ولا يمكن الإجابة عنها في حيز زمني وجيز لأنّ سؤالك لا يبرز إلا قمة جبل الجليد، لأن الكتابة كما تعلم ليست فعلا معزولا عن ظروفها وملابساتها.أما عن الإحباط فأي تونسي ليس محبطا مما يقع حوله؟ لكأنّنا أتينا فعلا جبّارا لم يكن يخطر على بال وعقدنا عليه كلّ آمالنا ثم وجدناه ينفرط من بين أصابعنا دون أن نظفر منه بشيء.
صحيح أنّ الثورات ليست أمرا هيّنا وليست هي مجرّد اقتلاع لنبتة لنضع مكانها نبتة أخرى، وإنّ ما وقع كان كفيلا بأن يخلخل جملة من المنظومات المتشابكة، وأن البلاد وقعت تحت جملة من الضغوط والتجاذبات الداخلية والخارجية وهذا كله جعلنا لا ندري من أين نبدأ، ثم لا تنسى أن ما خلناه منقذا أعني الحرية والانتخابات قد أفرز واقعا آخر من الغموض والارتباك جعلنا نتساءل فعلا هل هذه حرية؟ وهل أن ما يرجوه المواطن التونسي هو هذا؟ وأنا إذ أحدثك فأنا أنطلق من واقعي كمواطنة من القصرين عاشت وضعا استثنائيا وتصوّرت أن التضحيات التي قدمت كفيلة بأن تغير الواقع ولو قليلا، لكنّ الأزمة تفاقمت والبطالة احتدت وظهرت ضروب أخرى من الفساد والانحرافات وتبخّرت الوعود الكاذبة التي قطعها المسؤولون الجدد. في خضمّ هذا الواقع الجديد لم أنقطع يوما عن الكتابة ولا كففت عن النشر ولا فكّرت في ذلك بل بالعكس فإنّي أعتبر أنّ الكتابة عامة والكتابة الإبداعية خصوصا تعدّ من أوكد ما نحتاج إليه فما وقع من اهتزاز سياسي واجتماعي واقتصادي لابد أن يكون مرفودا بثورة ثقافية حقيقية وازدهار لكل القوى الإبداعية في البلاد حتى نعبّر عن كل ما كبت وطمس طويلا، ثم إن العداء والتناحر والتشرذم الذي نعيشه لا يمكن أن يعبر الا عن فقر ثقافي وفكري وجمالي، لهذا السبب سأظل أكتب إلى آخر رمق إنها مسؤولية وجودية.
ما هو موقفك من استهداف الحريات في الابداع والتعبير ؟
طبعا ما حدث خطير جدا ولا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي أو السكوت عنه، لأنه استهداف للحرية الإبداعية والحرية الشخصية والمدنية والوجودية، إنه تعارض مع ملكات الإبداع التي وضعها الله في الإنسان، فالإنسان سيتساوى مع الحيوان إن لم يكن مبدعا، وما كانت الحياة فوق هذه الأرض لتتطوّر وتزدهر لولا الملكات الإبداعية. وتونس كانت على مرّ التاريخ أرض الإبداع والمبدعين في كل المجالات وتلك آثارنا تدلّ علينا، عمارة وأدبا وموسيقى ومعارف شتى تزخر بها المكتبات والمتاحف، والمتنوّرون في تونس كانوا دائما درعا للإبداع والمبدعين يذودون عن حماهم ويحاربون من أجلهم فلول الجهل والتزمت والموت الزّؤام.إنّ ما حدث ويحدث يستدعي إنشاء قوانين صارمة تحمي الإبداع والمبدعين وتجعله بمنأى عن الأغراض الايديولوجية والمزايدات السياسية البائسة.كما أنه لا يشرّع للإبداع أن يقرأ خارج منظومة الإبداع وبغير أدواته.
فكيف يقرأ الفنّ بمنطق الواقع وكيف يقرأ المعنى الشعري بنفس الأدوات التي يقرأ بها المعنى النّحوي الذي ليس يرمي لغير الإفهام أليس هذا من قبيل الجهل والتهافت رغم أنّ المسألة حسمها أرسطو من زمان بعيد وعاد بعض المتسرّعين بعد ثورة الكرامة يتهافتون على مسألة هم ليسوا مؤهّلين أصلا للبتّ فيها أعني بذلك قراءة الفنّ بأدوات من خارج منظومة الفنّ وإقحام للدّين في غير مواضعه وجعله موضع حرج والحال أن الأمر لايستدعي كلّ هذا الهرج والمرج والتهويل والتفخيم.إن مثل هذه المحاولات لا أراها إلا مسيئة للدين والفن والإنسان فالمجتمعات لا تتقدم فقط بعلومها الشرعية أو الهندسية أو الطبيعية إنما تتطور الحضارات وتتقدّم المجتمعات بكل مهاراتها ومعارفها وعلومها وخبراتها ولا يمكن لثورة أن تؤتي أكلها إلا إذا عاضدتها ثورة فكرية وفنية لأن الإنسان كائن مركب يحتاج أنواعا من الغذاء، منه العقلي والروحي والنفسي زيادة عن الغذاء الجسدي.
هل كتبت الثورة نصها؟
لم تحقق الثورة أهدافها بعد ومازال المجتمع في مخاض ثوري عنيف ومازال التغيير يلامس كل شيء في حياتنا لذلك نتوقع فكرا جديدا وفنا جديدا وطرائق مختلفة في الرسم والكتابة والمسرح، والإيجابي في كل هذا ورغم ملامح الردة والنكوص أحيانا فإن الثورة وأدت وحشا كاسرا اسمه الخوف، كان يعشش في العقول والنفوس والحناجر، فالتونسي بعث بعثا جديدا ورأى عن كثب قوة الشعب التي لا تقهر، وبما أنه قد استعاد ثقته بنفسه ورغم كل العقبات والانحرافات التي يعيشها المجتمع اليوم فيمكن القول إن ما ينتظرنا سيكون خيرا بحول الله.
كان لك نشاط في النيابة الخصوصية في القصرين كيف تقيمينه؟
قبلت الانضمام إلى النيابة الخصوصية عن طواعية ومتطوّعة لأني اعتقدت أن دوري في خدمة القصرين قد تضاعف بعد الثورة فلم أكتف بصفتي أستاذة ولا بصفتي مبدعة بل أردت أن أدخل حياة الناس وأشاركهم همومهم وهواجسهم وأن أساهم في ترميم الخراب الذي لحق مدينتنا الشهيدة.ولكنّ عملنا كان في فترة دقيقة وشديدة التوتر فالقصرين وبحكم ما عاشته قبل الثورة وأثناءها كانت تتحرك على أرضية من جمر وكانت تستدعي وقفة حازمة من نسائها ورجالها.ولكن لا أخفيك فالصعوبات جمة والخراب عميم والإمكانيات شحيحة ورغم أننا ناضلنا في سبيل مضاعفة الميزانية إلا أن ذلك لم يكن ممكنا ورغم كل الوعود التي سمعناها من حكومة الباجي قائد السبسي والحكومة المنتخبة من بعدها فإننا لم نحظ بما يمكن أن يكون قادرا على إعادة الاعتبار لأهالي القصرين وزرع الثقة في قلوبهم. وما زاد الطين بلة هو أننا في هذه المرحلة مازلنا نتبع التمشي البيروقراطي النمطي الذي ورثناه عن العهد السابق في حين يتطلّب الوضع بالمناطق الداخلية والمهمشة طويلا قرارات عاجلة وجريئة للتقليص من الهوة التي انحفرت بينها وبين المناطق الساحلية نتيجة السياسة الجائرة في عهدي بورقية وبن علي.
هل هناك أدب نسائي؟
أنا لا أعتقد أبدا في مثل هذه التسمية ولا أخضع الأدب إلى مقاييس جنسية وإنما أعتبر أنّ الأدب شأن شخصي وعصارة ذات مفتوحة على العالم، فليس ثمة امرأة تكتب باسم النساء ولا رجل يكتب باسم الرجال وإنما ثمة إنسان جنسه أنثى أو جنسه ذكر يكتب، لأن نداء الكتابة ألحّ عليه ليهجس بما يمكن أثقله أو أضناه مرّة أو ما أبهجه أو أفرحه مرّة أخرى. هذا الإنسان الذكر أو الأنثى يكتب إيقاع العالم في ذاته ويكتب ذاته في العالم، ولا أتصور أن هذه المسألة هي المحدّد في الكتابة، بل المحدد كيف تكتب تلك المرأة وكيف يكتب ذاك الرّجل؟
ثم كيف يبني مشروعه الإبداعي وبأي اللبنات؟ كيف يطوّر أدواته وكيف يعي دوره التاريخي والوجودي؟ إذ انطلقنا من مسلّمة أن الأدب ليس ترفا وليس شأنا زائدا عن الحاجة إنما هو إنجاز أنطولوجي وتحدّ وجودي يحتّم على الكاتب أن ينهض بدوره في مرحلته التاريخية دون أن ينسى أنه مطالب بأن يؤسّس لخطاب جمالي.