شاهدتُ بعض المقاطع من الفيلم الذي تسبّب في الأحداث الدامية الأخيرة.. وأعترف بأنّي شعرت بالقرف لتدنّي مستواه شكلاً ومضمونًا.. وهو عمل مشبوه مرفوض من الواجب مُقاضاته وفق القوانين المعمول بها في الغرب نفسه.. لكن من غير المعقول خدمته بمثل ما جوبِه به من عنفٍ غير منتج! العمل رديء لا شكّ في ذلك. وهو ليس صورًا مسيئة بقدر ما هو إساءة مُصوّرة لا علاقة لها بالسينما ولا صلة لها بالإبداع. حصل شبْهُ إجماع على ذلك. ممّا أفقد هذه التفاهة كلّ قدرة على الإساءة أصلاً لأنّ التفاهة لا ترقى إلى التأثير في النفس المتوازنة فضلاً عن أن تنال من المتعالي أي المقدّس.
وكان مُقدّرًا لهذا العمل الرديء أن يُضاف إلى أكداس الزبالة وإلى حجارة الفلتاء التي لا يعبأ بها عاقل. لكنّ العنف الذي قُوبِل به قدّم له خدمة العمر وصنع منه حدثًا وجعل له حضورًا وأتاح له تحقيق هدفه المشبوه: ربْط الإسلام بالعنف وإظهار المسلمين في مظهر الغلاة المتطرّفين.
لهذه الأسباب بدا الأمر شديد الغموض، وأخذت نظريّة المؤامرة تربطُ الحدث بالحملة الانتخابيّة أمريكيًّا وبمغازلة الاحتياطيّ الإستراتيجيّ محليًّا، لعلّها تفهم ما لا يُفهم! حرب الخليج لم تقع! هكذا كتب بودريار ساخرًا جادًّا ذات حرب خليج. وها هو البعض يقول لنا دون سخرية هذه المرّة: غزوة السفارة الأمريكيّة لم تقع! التونسيّون لم يموتوا عبثًا! الحرائق لم تشتعل بفعل فاعل! صُورة تونس لم تُشوّه عن سبق ترصّد! الحكومة لم تساهم في تصنيع العنف!
لا علاقة لهذا العمل بالإبداع.. ولا مبرّر للعنف مهما كانت العلاقة.. وعلى الرغم من ذلك أصرّ جانب من النخبة السياسيّة الحاكمة على نسبة الفيلم إلى الإبداع ووقع بعضهم عن قصد في فخّ تبرير العنف رغبةً في توظيفه للانقلاب على الحريّة! الإبداع وحريّته هما سبب كلّ بلاء! وما كان لهذا الذي حدث أن يحدث لو سُنّ على المستوى العالمي قانون يُجرّم المسّ من المقدّسات شبيه بالقانون الذي تريد النهضة سنّه محليًّا! هكذا قال لنا أحد رُشداء الحكومة!!
هل يعني هذا أنّ الإبداع هو الذي نزل إلى الشارع وخاتل قوات الأمن فجاء من الخلف عوضًا عن المجيء من الأمام وأحرق ودمّر وخرّب ونهب وتسبّب في موت المواطنين وتشويه صورة تونس والإسلام والمسلمين؟!
هل يعني هذا أنّ سنّ قانونٍ ما لتجريم عملٍ ما أمر كافٍ لقطع دابر ذاك العمل؟ هل نقصت السرقة بمجرّد تجريم السرقة وهل انقطع القتل بسبب القوانين التي تجرّم القتل حتى في البلاد التي لم تبطل العمل بعقوبة الإعدام؟ أم أنّ ترك الحبل على الغارب لهذا العنف ابتزاز مقصود ومُساومة مُخطّط لها يتوهّم البعض أنّها يمكن أن تتيح له تمرير مثل هذا القانون محليًّا وفرْضَه على الولايات المتّحدة وسائر دول الغرب عالميًّا؟!
لا علاقة لهذا الفيلم بالسينما ولا علاقة له بالإبداع أصلاً! وهو إساءة مشبوهة ومرفوضة.. وإنّ في القوانين المعمول بها ما يسمح بمقاضاته والاقتصاص منه.. وأيًّا كان الأمر فلا شيء يبرّر العنف ولا شيء يبرّر الردّ على الإساءة بإساءة.
وكم أرجو أن ينتبه عقلاء النخبة السياسيّة الحاكمة إلى خطورة الرسائل التي يوجّهونها من خلال إدارتهم السيّئة لمثل هذه الأزمات المفتوحة على مجهول معلوم! لأنّ وضع عنف الغُلاة في خانة الغيرة على المقدّسات هو نوع من تبرئة الذمّة والتشجيع على العنف! ولأنّ وصف هذا العنف بأنّه ردّ على عنف أصليّ صادر عن الإبداع يضعهم في تحالف موضوعيّ مع التطرّف.
راس الهمّ دادا عيشة! عبارة يُطلقها التونسيّون كلّما أرادوا الإشارة إلى كبش فداء أو شمّاعة يعلّق عليها البعض المشاكل والأخطاء تنصُّلاً من كلّ مسؤوليّة. ويبدو أنّ حريّة التعبير وحريّة الإبداع والحريّة في المطلق هي دادا عيشة هذه الأيّام!
لكنّ دادا عيشة تحتاج إلى سيدي تاتا كي يُصدّقها. وسيدي تاتا هي عبارة أخرى يُطلقها التونسيّون على كلّ ساذج شبيه بكانديد فولتير يُصدّق كلّ ما يُقال له من ترّهات. في ضوء هذين العبارتين لابدّ من التأكيد مرّة أخرى على أنّ هذا الفيلم المسيء التافه لا علاقة له بالإبداع ولا علاقة له بالحريّة أصلاً.. من ثمّ على البعض أن يكفّ عن اعتبار الإبداع دادا عيشة وعن اعتبار الشعب التونسيّ سيدي تاتا.