جفّ الحلق وبحّ الصوت وشحّت العبارات ونحن ننبّه منذ مدة طويلة وعبر كل المنابر والقنوات والجسور الى غُولين يهدّد ان ثورة 14 جانفي وكيان تونس: الفساد والعنف.. الغول الأوّل وهو الفساد عشّش في كل جهة وقطاع بل سكن في الكثير من العقول واستحكم في الاجهزة واستبدّ بالأمر أيما استبداد حتي أصبح نظامًا بذاته وفقه تسير دواليب الدولة وفي اطاره تتحرّك المصالح وعبره تقضى الشؤون.. وفي حين قامت حركات عفوية في عديد الجهات والقطاعات لتطهيرها من رموز الفساد، نجح بعضها وأخفق اغلبها، وفي حين كان من المفترض ان تكون هذه مهمة من المهمات المركزية للمرحلة الانتقالية خاصة بعد تسجيل تنامي الفساد في مرحلة شهدت ضعف الدولة بعد الثورة، تعالت أصوات تدعو الى «التعقل والاعتدال» في محاسبة رموز الفساد «خوفا على مشاعرهم وتجنّبا لأيّ ظلم» وقال أحدهم مستنكرا: «هل تريدوننا أن نعلّق المشانق؟»، واستُعمِلت هذه القضية ورقة انتخابية قُدّمت فيها تطمينات كثيرة من هنا وهناك واتجهت البلاد اتجاه التسويات والترتيبات حتى أصبح اللعب بكلمات المحاسبة والمكاشفة رياضة يومية يتمّ دومًا تطعيمها بمسحوق المصالحة فينضاف في اللعبة التشويق الى المتعة.. إلى أن انفجرت امام الجميع عملية تسريب امتحانات الباكالوريا التي مثّلت خيانة عظمي في حق ابنائنا وشهائدنا وثورتنا.. حينها تفطّن البعض الى حجم الفساد الذي استحكم، ودعا إلى مقاومته... ونرجو ألاّ تكون عودة الوعي به عارضة أو مجرّد مشجبة لتعليق الفشل بل بداية وعي لغاية وضع استراتيجية ضمن منظومة العدالة الانتقالية... أمّا الغول الثاني فهو العنف الذي بدأ يتنامى منذ مدّة واتخذ كلّ الاشكال: عنف لفظي، وعنف مادّي، عنف مسّ الأفراد وطال المجموعات، عنف منظّم وآخر عفوي، عنف أحرق الأخضر واليابس وعنف يتهدّد حتّى حياة الناس، عنف سياسي لمجموعات دينية تجاوز الوجود بالقوّة الى الوجود بالفعل واستفحل حتّى أصبح ظاهرة مُرعبة.. لقد احتكرت السلطة السابقة هذا العنف فصادرت الحريات وأحلّت الاسبتداد ولهذا قامت الثورة وأطاحت بالدكتاتور دون ان تستعمل العنف، لكنّها أنتجت عنفا غريبا عن تونس جاء بعقلية الغزوات وبدافع الغنائم وبرغبة الاستبداد... ولما نبّهنا الى الظاهرة وإلى عدم التعامل معها بمكيالين قالوا «هذا تهويل» فقلنا: «إنا ندعوكم الى عدم التهوين» فقالوا: «تريدونها تطاحنا بين الاسلاميين ومذبحة على غرار ما فعل بن علي» قلنا: لم نطلب غير تطبيق القانون وعلى الجميع» وننتظر إجابة...أحرقت بعض المؤسسات العمومية والمحلاّت العامة والخاصة ومراكز الأمن والمحاكم وبعض دُور الاتحاد في جندوبة وبن قردان وبوسالم... واعتُدي على الافراد والمجموعات في جندوبة والعاصمة وبن قردان وسوسة وقبلها في سيدي بوزيد ومنوبة، وانتشر الرعب من جديد بين التونسيين ولم نشهد غير تصريحات لا تطمئن، بعضها أوغل في تبرير هذا العنف بالحديث عن قضية الاساءة إلى المقدسات كدافع الى العنف، وبعضها تنصّل أصلا من مسؤولية الدولة وأوكل الامر الى المجتمع على غير عادته والبعض الآخر برّأ السلفيين من التهمة تقرّبا واستلطافا... صحيح أن على المجتمع أن يتولّى الدفاع عن نفسه من مظاهر الفساد والعنف لكن الأصحّ أن تتولّى الدولة المسؤولية الكبرى في ذلك وصحيح أنّ مقاومة مثل هذين الظاهرتين لا يتمّ بعنف القانون وحده بل أيضا بنشر الوعي وإشاعة ثقافة العقل والتنوير وإصلاح التعليم والارتقاء بالحياة الاجتماعية لكن من واجب الدولة أن تنجز مهامها في ذلك لا أن تبحث عن الأعذار... وصحيح أنّ استفزاز مشاعر التونسيين أمر مستهجَن والمسّ بمقدّساتهم تحت أيّ عنوان بما فيه الحرّية هو فعل إذا ثبت مرفوض ومدان بشدّة خاصة اذا ساهم في الفتنة، لكن أن يكون ذلك تشريعا للعنف وذريعة لفرض شريعة الغاب ومدعاة إلى التهديد بالقتل واستهداف الأرواح بدعوى اقامة الحدّ وسببا لتحريم الفن والتضييق على الابداع والتعبير فذلك ايضا امر مرفوض لان جريرة التعدي على معتقدات الناس هي شأن قضائي وليست موكولة لغيره كائنا من كان ولا وصاية لأي طرف على المقدّسات. لذا مازلنا ننتظر بدْء إجراءات قانونية حقيقية من شأنها ان تضع الحدود وتمنع الانزلاقات وتستبق المخاطر قبل ان تقع وتجنبنا السقوط في هوة الارهاب... إنّ هناك ترابطا كبيرا بين الفساد والعنف فكلاهما يتغذّى بالآخر وكلاهما يمهّد للآخر... ونخاف ان يستمرّ السكوت عنهما تحت الضغوطات المختلفة وقد اثبتت الحكمة ان السحر لابدّ أن ينقلب على الساحر.