إن فتحنا ملفّ السرقات العلميّة الجامعيّة التونسيّة وما شابهها في العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديدا في العلوم الإنسانيّة أصابنا يأس مرير . وقد نختلف أحيانا كثيرة في مفهوم السرقة العلميّة كتجويز البعض التجميع والتلخيص والتوصيف المبالغ فيه والسطو على الأفكار، ولكن بأسلوب مختلف وتمطيط نصّ البحث كي يظهر على شاكلة كتاب ضخم منتفخ يمكن اختصاره في عدد محدود من الصفحات وافتعال الإحصاء والترسيمات وتكثير الاستدلال ليغيب أيّ مشروع لسؤال في زحمة الوثوق والتسليم بطمأنينة العارف الّذي لا يعلم أنّه جاهل كي يتسنّى له أن يعرف. وليس من باب الادّعاء الكاذب أن أصرّح بأننّي تعرّضت في السابق مرارا وتكرارا للسطو على أفكاري، بل وجدت أحيانا فقرات تنقل حرفياّ ومن غير ذكر للمرجع وصاحبه . ولأنّ السرقة عادة ما تحدث خارج حدود الوطن، وفي مجلاّت أدبيّة وفكريّة عربيّة أو صحف يوميّة وفي كتب أيضا هنا وهناك فقد كنت أكتفي بالصمت مخافة أن أرمى بالغرور، ثمّ إنّ الضرر محدود، كما كنت أراه. ولكنّ حدوث السرقة على مرمى البصر وفي عقر داري، أي في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الّتي أدرّس فيها ومن قبل أحد الطلبة الّذي ينوي الالتحاق بهيأة التدريس وبإشراف زميل فهذا لا يمكن احتماله والتغافل عنه. أضف إلى هذا كلّه واقع التكتّلات الصغرى والولاءات للأشخاص التي استلزمت ولا تزال النفاق والتزلّف والانخراط في صراعات مصلحيّة لا صلّة لها بالأفكار والمناهج ممّا أفقد الجامعة التونسيّة منذ أعوام طويلة إشعاعها العلميّ وزّج بها في نفق مظلم من تدنّي المستوى المعرفيّ . كما ساعدت سياسة الحزب الواحد في السابق، ولا تزال آثارها حاضرة إلى اليوم في طرائق التسيير ومناهج البحث والتدريس، والنفاق الاجتماعيّ العامّ وروح التآمر لخدمة مقاصد غير علميّة أو ثقافيّة على اندساس عدد من الانتهازيّين في مجموع المدرّسين الجامعيّين أريد بهم محاربة القيم الأخلاقيّة الجامعيّة وتعطيل مشروع النهوض بالجامعة والمجتمع.
بإمكاني أن أصمت في هذه المرّة، كسابقاتها. إلاّ أنّ اقترابي من التقاعد وشعوري بالخوف على الأجيال القادمة بعد المظالم الكثيرة الّتي حدثت في حقّ شباّن متفوّقين علما وأخلاقا سبق أن تعرّضوا للتهميش، والبعض الكثير منهم منعوا ظلما من التدريس في الجامعة وإحساسي العميق بالقهر والغبن حفّزتني على أن أصرخ لعلّ هذا الصوت يصل إلى بعض الآذان في الضجيج السائد اليوم .
لماّ كنت أتجوّل منذ يومين بين رفوف مكتبة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة توقّفت عند مخطوط مرقون عنوانه: «الرموز الحرفيّة في الشعر العربيّ المعاصر»، وهو أطروحة دكتورا لحياة الخياري، بإشراف الأستاذ المنصف الوهايبي، وتذكّرت في الأثناء أنّ الباحثة المذكورة اتّصلت بي في ردهة الكليّة بعد أن أشار عليها كلّ من الشاعرين أديب كمال الدين من العراق وأحمد الشهاوي من مصر الاستعانة بي مع الأستاذ المشرف، إذ سبق أن كتبت عن الظاهرة الحروفيّة في الشعر العربيّ المعاصر، بأن وسّعت من المدوّنة بقراءة أدونيس، وهو أحد شعراء الأطروحة الثلاثة، وعلاء عبد الهادي وغيرهم من شعراء الستّينات ولاحقيهم من التجريبيّين في العالم العربيّ، وعناوين دراساتي وبحوثي في هذا الموضوع شاهدة على ما أقول .
ما أزعجني حقّا أنّ عددا كبيرا من أفكاري وأفكار نقّاد آخرين تضمّنها « الحروفيّ»، وهو كتاب أنجزه ثلاثة وثلاثون ناقدا، وقد صدر عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر سنة 2007 بكلّ من لبنان والأردن بخصوص تجربة أديب كمال الديّن الشعريّة نسبتها الباحثة إلى نفسها سطوا ولم تذكر أيّ اسم من النقاد الثلاثة والثلاثين، بل اقتصرت على ذكر الّذي جمع وقدّم البحوث وهو الدكتور مقداد رحيم . كما بالغت في الانتحال بأن استفادت من مجمل كتاباتي النقديّة في الموضوع المذكور . إلاّ أنني لم أجد ذكرا،ولو مرّة واحدة، لاسمي في مجمل الإحالات والهوامش وقائمة المراجع. حدث كلّ ذلك طبعا بعلم الأستاذ المشرف الّذي لم أفهم إلى حدّ هذه الساعة سرّ إصراره على ذكر أسماء لا علاقة لها بموضوع البحث وتغييب أسماء أخرى، بل إنّ ما فاقم من إزعاجي عند استفساره في الأمر أن تعلّل بمسؤوليّة المشرف الأوّل المتخلّي الأستاذ عبد العزيز شبيل.
حدث التغييب مثلما حدث الانتحال ولا مردّ لهما ، ولكنّ الّذي يدفعنا اليوم إلى الخوف، بل الارتعاب أن تسود المحسوبيّة والتكتّلات المصلحيّة والتهميش والإقصاء والاستهانة بالعلم كي يستحيل إلى رقم باهت في تقضية المنافع وسلاح تستقوي به الانتهازيّة داخل الحرم الجامعيّ في مغالبة قيم المجتمع النبيلة وحق الوطن في جامعة ناهضة متقدمة علما وأخلاقا.