لاريب أنّ قوّة الذكاء البشريّ قد بلغت حدّا أصبح معه من الممكن القطعُ مع ضيق الموجود، وتوسيعُ دائرة الممكنِ والمحتمَل، واستمالةُ الناس إلى ما يعتبرونه حياةً ثانيةً تتنكّر إلى أشكال اليقين الحسّيّ الزائف وتنأى عن أغلال الواقع الآسر.
ويُدرِكُ المهتمّونَ بقضايا المعلوماتيةِ والأنساقِ الافتراضيّةِ المُبتَدَعَةِ مكانةَ «حياة ثانية» في سياقاتِ التحوّلاتِ التكنلوجيّةِ المتسارعةِ في مضمار شبكة الانترنيت وما توفّره من فرضيّات مُحتَمَلة قابلة للوقوع وما تمنحه من مراهنةٍ على الأبنيةِ الافتراضيّة الّتي تتماهى مع الواقعِ غير أنّها تتمرّد على حدوده وترفض أسيِجَتَه الخانقةَ.
ويقرّ المختصّون بأنّ «حياة ثانية» واحدة من بين أهمّ الملامح الكبرى للتطوّر الهائل في عالم الانترنيت. وهي أيضا النسق الكونيّ الوحيد الّذي يشمل «الكلّ» وخارقةٌ من خوارقِ التقدّم التكنلوجيّ المعلوماتيّ، بما أنّها عبارةٌ عن نَمذَجةٍ لجوانب مرتبطة بواقع الإنسان من جهة، وهي أيضا تمثُّلٌ ميتافيزيقيّ للواقع المثاليّ كما يجب أن يكون من جهة أخرى.
ولقد وقع إطلاق «حياة ثانية» أوّل مرّة على شبكة الانترنيت في عام 2003 فجسّمت فضاءً افتراضيّا ثلاثيّ الأبعاد يحرّكه برنامج معلوماتيّ يسمح للمتطلّع إلى «حياة ثانية» بابتكار دروب جديدة للوجود في مغامرة استثنائيّة يسبر العقل البشريّ أغوارَها بخياله المجنَّح.
وتتميّز «حياة ثانية» من سائر الشبكات الاجتماعيّة مثل «الفايسبوك» و»التويتر» بكونها شبكةً اجتماعيّة ولعبةَ فيديو في آنٍ واحدٍ لا يكونُ المستعملُ خلالها مجرّد علامة أو رمزًا أو حائطا فايسبوكيّا، وإنّما يصير المشترِك في «حياة ثانية» إنسانا افتراضيّا جديدا بديلا عنك يُسمّى «آفاطار».
«آفاطار» هو محور الحياة الثانية، وهو بطل لعبة الفيديو، كائنٌ حَيّ تتحكّم فيه عن بُعدٍ، هو أنتَ لكن مع بعض التحوير المستجيب للطراز الكامن في أغوارك اللاواعية، هو كائنٌ حَيّ تَهواه نفسُكَ، هو «أناكَ» المنشود، لَه وجود أنطولوجيّ مستقلّ عن ذاتكَ. هو رغبتكَ تراها مجسّدة رعناء بلا قيد أو شرط. وهو من هذا الوجه شخصيّة وفيّة للتصوّر الأفلاطونيّ الّذي يعتبر المثال أكثر واقعيّة من الكائنات الفرديّة الحسّيّة.
يستهلّ «جيرار دي نرفال» كتابَه «أوريليا» بهذه العبارة «أحلامنا حياتنا الثانية». ومازالت الحكاياتُ الدينيّةُ والمعتقدات والأساطير والخرافاتُ تتشوّفُ إلى حياة أخرى بديلة عن الأولى تلوح كَحُلمٍ مُغوٍ ساحرٍ نَفُورٍ. وفي هذا المساق يمكن قراءةُ هذه الشبكة الاجتماعيّة باعتبارها تجلّيًا من تجلّياتِ هذا الحلم القديم المراوِدِ للإنسان، وضربًا من «الفانطازما التكنلوجيّة» تُدخلُكَ الحلمَ من بوّاباتِه العريضة.
وتدعوك «حياة ثانية» إلى إنشاء «آفاطار»كَ إنشاء حرًّا خالصا: تختار لون بشرتك وعينيك وتحدّد طولك وملامحك وتبدّل طريقة مشيتك وألوان انفعالك ومُيولك وتخرج من شَرنقة المكتوب على الجبين والمُقَدَّرِ من السماء والمَوروث عن السلف الصالح لتمتطي صهوة الخَلقِ وتجرّب الممنوعات وتكسر الحدودَ.
ويعتنق أصحاب «حياة ثانية» ديانة جديدة ويَدُكّون أصولهم الاجتماعيّة وينشؤون أخرى بديلة بحسب الهَوَى والخاطر ويستعيرون عاداتٍ وتقاليد لا صلة لها بذاكرة آبائهم وأجدادهم ويعلنون عن التزامهم السياسيّ وعقائدهم الفكريّة ويخلقون أشياءهم وممتلكاتهم من قصور ودورٍ ومؤسّسات وشركات وأموال وأرصِدَةٍ بنكيّة وملابس وحيواناتٍ، علما أنّ حقوقهم محفوظة في كلّ ما يبتكرون داخل حياتهم الثانية، فَهُم محميّون ببرنامج عتيّ يسجّل أملاك كلّ آفاطارٍ في حياته الافتراضيّة الجديدة ويدفع كلّ مُعتَدٍ ويحرس الخصوصيّات ويعرّض كلَّ مُفسِدٍ مخالفٍ إلى التتبّعات العدليّة والعقوبات القانونيّة.
وتوفّر «حياة ثانية» فضاء للتلاقي الافتراضيّ، بل قد تدعوك إلى اختيار حبيبة خياليّة وتشجّعك على نحتها نحتا حرّا حتّى تستحيل آفاطارًا من صنع يديكَ يسلّيكَ في علبتك التكنلوجيّة. وتنظّم لكما «حياة ثانية» مواعيد غراميّة بحسب أوقات فراغك السامحة وتترك لك المجال وسيعا لاختيار زمانِ الموعد الغراميّ ليلا أو نهارا صباحا أو مساءً، ومكانِه إمّا في أعالي الجبال السامقة وإمّا على أشهر السواحل العالميّة.