كما في كل عام , تمر ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر مفعمة بالمعاني والدلالات وذكريات الزمان الجميل .. كما في كل عام , نطوي ذكرى رحيل الغالي الحي في قلوبنا في جو من التراشق الإعلامي والتغامز السياسي والتنابز الإيديولوجي حول الناصرية بين النظرية والتطبيق وحول حقبة سياسية من حكم الرجال.
وكما هي الحال في كل عام , يصر كثيرون من ضحايا الإيديولوجيات المتكلسة على محاكمة جيل من الساسة والمسؤولين العرب وفق معايير الراهن السياسي المعيش في ابتسار مقيت للسياقات الاستراتيجية لكل حقبة من حقب التاريخ ..
وعلى غرارهم , يرفض الأوفياء لنرجسية الفروق البسيطة وفق تعبير فرويد التخلص والترفع عن شوائب مرحلة سياسية ركزت على التوجهات الكبيرة وأدخلت مصر إلى فضاء الفعل الحقيقي في المشهد السياسي الإقليمي والدولي وبوأتها منزلة الفاعل في معادلات الحرب والسلم في جغرافيا الشرق الأوسط .
في كل أيلول سبتمبر من كل سنة , تنصب المقاصل التاريخية لخالد الذكر وتحكم حبال المشانق على رقاب المؤمنين بالتجربة الناصرية تحت عناوين واسئلة خبيثة من قبيل ماذا فعلت الناصرية بالعرب ؟ وأية علاقة بين الناصريين والديمقراطية ؟ وهل أدت الناصرية إلى نكسة 1967 ؟ ... وفي كل أيلول أيضا , يبقى ناصر منصورا بشواهد التاريخ وتظل الناصرية مستنصرة بألسنة أعداء الأمة قبل أبنائها الأوفياء الذين ما بدلوا تبديلا .. وفي كل فجر خريف , يتساءل خصوم ناصر – من عرب وغرب عن بقائه جميلا ومنصورا وحيا في خلد أبنائه وفي ذهن أحفائه ... يتساءلون وقد نسوا أن الزعيم ما استنجد بقوات اطلسية لدخول قلوب المصريين وما طالب بتدخل دولي يسقط الملك وينهي الملكية ..
يتساءلون وقد نسوا أن ناصر ما استنجد بقنوات فضائية تنفق مليارات الدولارات من أموال النفط والبترول على التحريض الطائفي والتشويه الأخلاقي والتزييف التاريخي تحت مسميات «شاهد عن العصر» .
يتساءلون وقد تجاهلوا أن ناصر ما تمسك يوما باتفاقيات دولية مخزية وضاربة في صميم الأمن القومي ومنتهكة للسيادة الوطنية وأنه عندما وضعت مصلحة المحروسة في كفة ومصالح الغرب في كفة اجتبى تأميم السويس كلفه ذلك ما كلفه .
يستفسرون .. وقد تناسوا أن في عهده بنت مصر حركة دول الانحياز وشيدت تكتلا دوليا يفرض على العالم برمته احترامه واعتباره ولم تسر يوما في ركب الولاياتالمتحدة وإسرائيل تحت مسميات استحقاقات كامب ديفيد.
يستغربون .. وقد جهلوا أن ناصر قاوم وناضل وكافح في غزة لتحريرها من الاغتصاب الأنقليزي والصهيوني ولم يعمل يوما على خنقها ومحاصرتها ناهيك عن استهداف أنفاق التهريب التي باتت شرايين الحياة الوحيد لأبناء القطاع بعد أن حاصرها القريب قبل البعيد.
يسألون .. وقد تناسوا أن ناصر بنى الوحدة السياسية والفكرية والاستراتيجية مع دمشق الشام .. ولم يشارك يوما في تعليق عضويتها في الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي .ولم يلتزم بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على الشعب السوري ولم يفكر يوما في مشاركة دول النفط في احتلالها عربيا ... وأنه عندما انفرطت الوحدة قال عبارته الشهيرة إن مكانة سوريا الاستراتيجية محفوظة ومحفورة مهما كان موقفها من القاهرة.
وعلى الرغم من كل ذاك , يتشبث البعض من هؤلاء بحادثة الانقلاب عن الملك والملكية وما علموا حق العلم , وما ادركوا حق الإدراك , وما أحصوا حق الإحصاء كم من ثورة شعبية صارت انقلابا سياسيا وكم من انقلاب عسكري صار ثورة شعبية ...