يوم الجمعة 9 نوفمبر 2012 سيكون روّاد معرض تونس الدوليّ للكتاب على موعد مع فرانز فانون. الطبيب والمفكّر والمناضل ضدّ الاستعمار بأنواعه وأصيل المارتينيك والفرنسيّ والجزائريّ والإفريقيّ بامتياز والمنتمي إلى المعذّبين في الأرض حيثما كانوا. قبل شهر من رحيله كتب فرانز فانون في رسالة إلى أحد أصدقائه: «نحن لا شيء في هذه الأرض ما لم نكن خدمًا لقضايا الشعوب والعدالة والحريّة. ولْتَعْلَمْ أنّي ما كنت لأتماسك أمام هول الصدمة وأنا أستمع إلى حُكْمِ الأطبّاء لو لم أفكّر مرّة أخرى في الشعب الجزائريّ وفي أبناء العالم الثالث».
لم يهادن فرانز فانون الاستعمار العسكريّ والثقافي وواجه مظاهر الميز العنصريّ ببسالة وجاهر بآرائه الطلائعيّة دون خوف، وحين اشتدّ عليه الحصار في الجزائر لجأ إلى تونس طبيبًا ومناضلاً في حركة التحرير ومحرّرا لجريدة المجاهد.
كان في ذروة عطائه حين اكتشف أنّه مُصاب بمرض اللوكيميا. وعلى الرغم من ذلك ظلّ يكتب ويناضل حتى آخر لحظة من صراعه مع المرض، وتوفّي في الولايات المتّحدة يوم 6 ديسمبر 1961 قبل أن يعود إلى تونس من جديد ومنها إلى مثواه الأخير على الحدود الجزائريّةالتونسيّة.
ليس من باب الصدفة إذنْ أن تحتفل تونس بفرانز فانون في أوّل دورة لمعرض الكتاب بعد 14 جانفي 2011.. فقد عرفها عن كثب ومارس الطبّ في مستشفياتها وانطلق من تحليله لأوضاعها كي يطوّر الكثير من أفكاره.. كما عرفته هي عن كثب ونهل أبناؤها من فكره وألهمتهم كلماته في جملة من ألهمت من النُّخب الفكريّة والسياسيّة من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينيّة.
أمّا ثالث الأسباب ولعلّه أهمّها فيتعلّق بطبيعة الأفكار التي طرحها فرانز فانون وصلتها الوثيقة بأسئلة المرحلة. مرحلة يشهد فيها الغرب أزمة فكريّة واقتصاديّة حادّة، وتشهد فيها إفريقيا هزّات جديدة، وتشهد فيها تونس مع عدد من البلدان العربيّة مخاضًا مثقلاً بالوعود والمحاذير التي تؤكّد الحاجة إلى عدّة فكريّة جديدة لتحليل الأحداث وفهم طبيعتها ومساءلة آفاقها.
كم تبدو أفكار فرانز فانون قريبة من هذه العدّة الفكريّة المطلوبة.. هو الذي كان من السبّاقين منذ نصف قرن إلى القول بأنّ التحرّر من الاستعمار لا ينتهي بمجرّد الحصول على الاستقلال بل لابدّ من تحرير الذهنيّة والوجدان والفرد ككيان إلى جانب تحرير الشعوب والجغرافيا..
قد يجوز لنا أن نسأل إن لم يكن هذا الكلام صالحًا في شأن التحرّر من الاستبداد أيضًا الذي لا يُطاحُ به حقًّا ما لم يُطَحْ بذهنيّته داخل العقل والوجدان إلى جانب ما يمثّله من شخصيّات ومؤسّسات وجماعات.
وهو ما يؤكّده فرانز فانون في أكثر من حوار وفي أكثر من كتاب، حين يتحدّث عن المقموع الذي يحلم بأنّ يتحوّل إلى قامع! وحين يدعو الشعوب المتحرّرة لتوّها من قبضة الاستعمار إلى الإسراع بتكوين نُخَبٍ جديدة.
النُّخب الجديدة التي يشير إليها فرانز فانون ويدعو إليها بإلحاح هي تلك التي تحمل ثقافة جديدة.. وهي كنايةٌ عن الذهنيّة الجديدة، التي لا بدّ للوعي السياسيّ من التعبير عنها كي يكون في خدمة المصلحة العامّة..
إنّ من شأن غياب هذه النُّخب وهذه الذهنيّة في نظر فانون أن يؤدّي إلى اختطاف الاستقلال (أو الثورات) من طرف انتهازيّين ومحترفي صفقات، لن يمثّلوا في النهاية سوى صور كاريكاتوريّة عن المستعمر، ولن يسمحوا إلاّ بأن تتمخّض حركات التحرّر عن الحزب الواحد والاستبداد. كم كان الرجل حادّ البصر والبصيرة. وكم هو شديد الحضور والراهنيّة.