بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    العاصمة: وقفة احتجاجية لعدد من اصحاب "تاكسي موتور"    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    الإعداد لتركيز مكتب المجلس العربي للاختصاصات الصحّية بتونس، محور اجتماع بوزارة الصحة    إعلام هامّ من الوكالة الفنّية للنقل البرّي    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    600 سائح يزورون تطاوين في ال24 ساعة الأخيرة    حوادث : 13 قتيلا و354 مصابا في الأربع والعشرين ساعة    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    متابعة/ فاجعة البحارة في المهدية: تفاصيل جديدة وهذا ما كشفه أول الواصلين الى مكان الحادثة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    عاجل/ منخفض جديد وعودة للتقلّبات الجويّة بداية من هذا التاريخ..    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    جندوبة : اندلاع حريق بمنزل و الحماية المدنية تتدخل    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    قرابة مليون خبزة يقع تبذيرها يوميا في تونس!!    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة بين 18 و26 درجة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد أحمد الزعبي : مدخل منهجي لدراسة الفكر الاجتماعي العربي الحديث

تتفق غالبية الأدبيات المتعلقة بالفكر العربي الحديث، علي اعتبار أن مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولي تمثل مرحلة اليقظة/ النهضة / البعث / عصر التنوير العربي، وان كانت تختلف علي بداية هذه الحقبة التاريخية ( يؤرخها فاروق ابوزيد ب 1828 الذي هو تاريخ نشأة الصحافة العربية، ويؤرخها حليم بركات ب 1798 وهو تاريخ الثورة الفرنسية ويطلق عليها تسمية المرحلة التأسيسية، ويؤرخها البعض بظهور الوهابية علي يد محمد بن عبد الوهاب(1703 1792) وشقيقتيها السنوسية والمهدية، ويؤرخها البعض بتأسيس الجامعة الاسلامية علي يد جمال الدين الأفغاني (1838 1897 )، ويبدؤها العديدون بدخول نابليون الي مصر 1803، ويقرنها آخرون بظهور محمد علي باشا في مصر...الخ
يمكن اجمال الملامح الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات العربية في ظل المرحلة العثمانية، والتي مثلت الخلفية التاريخية الموضوعية لظهور عصر التنوير العربي في القرن التاسع عشر بالآتي :
سيادة العلاقات الاقطاعية علي مستوي البناءين التحتي والفوقي،
هيمنة القطاع الزراعي في ثوبه المتخلف علي الحياة الاقتصادية والاجتماعية (80 85%).
لم تكن القطاعات الاقتصادية الحديثة (تجارة، صناعة/ ال 15% الباقية) بيد العرب المسلمين، بل ولا حتي العثمانيين المسلمين، وانما كانت بيد الأقليات القومية والأوروبية (أوربيون، يونانيون، أرمن، يهود...)،
تعايش العلاقات الرأسمالية الأوروبية الوافدة، مع العلاقات ما قبل الرأسمالية (القطاع القديم مع القطاع الحديث)،
أدت هذه الازدواجية الي خراب الاقتصاد الفلاحي والحرفي، حيث ترك الفلاحون أراضيهم هربا من الضرائب التي زاد عددها علي المائة نوع (فمن أصل 3200 قرية في ايالة حلب، لم يبق سوي 400 قرية في نهاية القرن الثامن عشر).
وفي القاهرة كان من بين 100 ألف رجل يمثلون قوة العمل في نهاية القرن 18، 25 ألفا يعملون كحرفيين، و15 ألفا كعمال زراعيين وصناعيين وخدميين(40 بالمئة من قوة العمل)، بينما كان الباقون (60 بالمئة) يعملون في أعمال غير منتجة (عساكر، أصحاب عقارات، رجال دين، تجار، خدم).
كانت القوي المنتجة بعناصرها المختلفة علي غاية من التدني والتخلف.
كانت أصناف الملكية السائدة هي:
أملاك الدولة (الميري) وكان السلطان العثماني نفسه يعتبر المالك الحقيقي لها,ودائما ماكان يقطعها ويلزمها لأصحابه وأزلامه وأتباعه.
الأراضي الوقفية (الرزق/ الحبوسات) وكانت تخضع عمليا لكبار رجال الدين الوثيقي الصلة بالسلطة وبالاقطاع.
الملكية الفردية الخاصة الصغيرة ، والتي كانت تتلاشي تدريجيا لصالح الصنفين الآخرين.
لقد انعكس هذا الواقع الاجتماعي الاقتصادي علي الحياة الفكرية العربية كالتالي علي حد وصف نقولا زيادة:
أتي علي العرب حين من الدهر، أخذته فيه سنة من النوم، فانقطعت فاعليته، وانعدم نشاطه، وانكفأ علي نفسه، وقبع في جحره، واكتفي بقوقعته. بدأت هذه الفترة في القرن 14، أو حتي قبل ذلك في بعض الأماكن، واستمرت حتي مختتم القرن الثامن عشر أو مفتتح القرن التاسع عشر.
وأصبحت مراكز العلم، من مدرسة سيدي يوسف في مراكش الي القرويين في فاس، والزيتونة في تونس،... والأزهر في القاهرة، وغيرها تكتفي بأن تحتفظ بجذوة تحت الرماد، لكن لا لهيب لها يحرق، ولا وهج يلفح، واكتفي المشتغلون بالعلم بأن يقرأوا علوم الدين واللغة... وكأني بالمشتغلين بالأدب والعلم والدين والتاريخ وغيرها، شعروا بقلة البضاعة، فحاولوا تجويد الصناعة . (قارن، نقولا زيادة، في : اشراف فؤاد صروف ، الفكر العربي في مائة سنة، بيروت1967، ص1).
أما بطرس البستاني فيتساءل متعجبا!
أين الشعراء، أين الأطباء، أين لخطباء، أين المدارس، أين المكاتب، أين الفلاسفة، أين المهندسون، أين المؤرخون، أين الفلكيون، أين كتب الفنون، أين العلماء المحققون، والأدباء المدققون ؟.
ولقد زاد طين هذه المآسي المادّية والفكرية بلّة، سياسة التتريك، التي شرعت تتبعها حكومة السلاطين العثمانيين، ضاربة عرض الحائط، بالعلاقة الحميمة والخاصة بين العرب والاسلام، وبأنه لابد للمسلم الحقيقي أن يتعلم اللغة العربية التي هي لغة القرآن، ولا بد بالتالي أن تكون لغة الدولة الاسلامية الرسمية هي اللغة العربية.
وبينما العرب علي هذه الحال من القهر والتخلف، وصلت أفكار الثورة الفرنسية (الحرية، الاخاء، المساواة)، وانهزام النظام الاقطاعي، وانتصار الثورة الصناعية بقيادة الطبقة البرجوازية الأوروبية الناشئة، وظهور الفكر القومي، وتلاشي الامبراطوريات الممتدة لصالح الدول القومية...الخ وذلك عبر منافذ متعددة أبرزها مصر ولبنان، وذلك من خلال:
حملة نابليون علي مصر (1798 1799)، حيث أحضر معه أول مطبعة باللغة العربية (مطبعة بولاق) بالاضافة الي بعثة من العلماء الفرنسيين قامت بدراسة الجوانب المختلفة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والآثاري المصري.
البعثات العلمية التي ارسلها محمد علي باشا الي أوروبا، ولا سيما رفاعة الطهطاوي (1801 1873) الذي تعلم في الأزهر، وأتم تكوينه الثقافي في فرنسا علي يد كبار المستشرقين، وقام بتعريب الكثير من الكتب العلمية الفرنسية، وحرر جريدة الوقائع المصرية ، ونشر كتابيه : تخليص الابريز في تلخيص باريز ، و الديوان النفيس بايوان باريز .
التعليم والرحلات والصحافة والجمعيات والبعثات والطباعة والترجمة...الخ.
أدي تضافر وتداخل الجانبين. السلبي (غرس الاستبداد الرأسمالي الغربي فوق الاستبداد الاقطاعي التركي)، والايجابي (أفكار حركة التنوير الأوروبية في الحرية والاخاء والمساواة والليبرالية والديمقراطية) الي يقظة الأمة العربية ودخولها
حلبة الحداثة، عبر مجموعة من الحركات والثورات والشخصيات العلمانية و/أو الدينية.
وحسب محمد عزّة دروزة (نشأة الحركة العربية الحديثة، بيروت 1971 ) فان أبرز مظاهر اليقظة العربية في مرحلتها المبكرة ( قبل الحرب العالمية الأولي) قد تجلي ب:
الحركة الاستقلالية عن الدولة العثمانية في كل من مصر وفلسطين (محمد علي باشا، ظاهر العمر).
ثورة كتلة من زعماء مصر وقادتهم ضد الاحتلال الفرنسي لمصر.
الحركة الاستقلالية التي حمل لواءها الزيديون في اليمن لاجلاء العثمانيين.
الحركات الدينية الاصلاحية العرب اسلامية (الوهابية، السنوسية، المهدية).
ثورة الضباط المصريين بقيادة أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق 1882.
النهضة الأدبية والعلمية (انتشار المدارس المختلفة : ابتدائية، اعدادية، عالية).
الجمعيات الأدبية والدينية والسياسية (العلنية منها والسرية) في بعض الأقطار العربية ، والتي من أبرزها:
العلنية: رابطة الوطن العربي (1904) ، جمعية الاخاء العربي العثماني (1908)، المنتدي الأدبي (1909)، حزب اللامركزية (1912)، المؤتمر العربي في باريز (1913)،
السرية: الجمعية القحطانية(1909)، الجمعية الثورية العربية، حزب العهد، جمعية العلم الأخضر، جمعية العلم (بكسر العين)، جمعية العربية الفتاة (1911) ، جمعية النهضة اللبنانية.
اتساع نطاق الطباعة، وبالتالي الثقافة، ويبدو أنه قد فات الأستاذ دروزة أن يشير الي التمردات الفلاحية التي قامت ضد الاقطاعيين والملتزمين الأتراك وأعوانهم في بعض الأقطار العربية، مثل العاميّات الشعبية في لبنان، والتي يأتي في طليعتها عاميات: طنوس شاهين، وأنطلياس، وعامية لحفد.
يصف ويقسّم حليم بركات الأستاذ في جامعة جورج تاون الأمريكية، فكر المرحلة التأسيسية (1798 1914) كالتالي :
التيار الديني، الذي انطلق في القرن ال 19 من مقولة تقوية الخلافة الاسلامية في وجه الغزو الأوروبي المسيحي. وقد ضم هذا التيار جماعتين متنافستين هما :
جماعة تقليدية ارتبطت بالخلافة العثمانية وحاربت كل دعوة للاصلاح، وهي الجماعة التي ارتبطت باسم أبو الهدي الصيادي( ت 1900) الذي كان مستشارا للسلطان عبد الحميد، والذي شارك في اضطهاد الأفغاني وعبده والكواكبي.
الجماعة السلفية الاصلاحية، التي اهتمت باحياء الدين الاسلامي والعودة به الي نقاوته الأولي، والتي انتقدت المؤسسة الدينية الرسمية، وعارضت السلطة في كثير من الأحيان. أبرز ممثلي هذه الجماعة السلفية :
جمال الدين الأفغاني ( 1839 1898 ) الذي حاول أن يزاوج بين الأخذ ببعض منجزات الحضارة الأوربية (الحكم الدستوري، العقلانية..). وبين الدين الاسلامي، علي أن يظل الولاء الديني هو الولاء الأساسي، الذي ينبغي أن تقوم علي أساسه الجماعات البشرية، وهو ما جعله يدعو الي الجامعة الاسلامية. ويعتبر كل من الشيخ محمد عبده (1849 1905) ومحمد رشيد رضا (1865 1935) من تلاميذ وأتباع الأفغاني.
تقوم آراء الأفغاني في التجديد الديني، علي أن السبب الأول في تدهور الحضارة الاسلامية هو اهمال ماكان سببا في النهوض.. ألا وهو ترك حكمة الدين، والعمل بها، وهي التي جمعت الأهواء المختلفة، والكلمة المتفرقة، وكانت
للملك أقوي من عصبية الجنس وقوته، وبالتالي فان عوامل نهوض الأمم تقوم علي: تحرير العقل من الخرافات والأوهام وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد، وفتح باب الاجتهاد. فقد ذكر في مجلسه مرة قولا للقاضي عياض تعصبله بعضهم فقال الأفغاني: ياسبحان الله، ان القاضي قال ما قاله علي قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه، وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق.. وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس هم أنفسهم لم يقفوا عند حد من تقدمهم، فقد أطلقوا لعقولهم سراطها، فاستنبطوا وقالوا وأدلوا دلوهم في الدلاء في ذلك البحر المحيط من العلم، وأتوا بما يناسب زمانهم ويتقارب مع عقولهم . وحول مسألة الاجتهاد يقول الأفغاني ما معني باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد باب الاجتهاد ؟ أو أي امام قال أنه لاينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين، أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث أو أن يجد ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما، والاستنتاج بالقياس علي ما ينطبق علي العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه ( أنظر: علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798 1914، بيروت 1983, ص74).
التيار الليبرالي، في سورية ومصر خاصة، حيث شدد هذا التيار علي الهوية القومية كبديل للخلافة أو الجامعة الاسلامية، وعلي العلمانية كبديل للسلطة الدينية، وعلي العقلانية كبديل للايمانية المطلقة، وعلي التحرر الاجتماعي (وخاصة تحرر المرأة) كبديل للنزوع التقليدي، وعلي التطلع نحو المستقبل كبديل للتطلع نحو الماضي، وعلي الوعي القومي كبديل للوعي الطائفي والقبلي والمحلي، كما ونادي بأفكار الاندماج الاجتماعي، وضرورة احياء اللغة العربية والاقبال علي التعليم الحديث. أما أبرز ممثلي هذا التيار فهم: بطرس البستاني وابراهيم اليازجي، ويعقوب صروف و جرجي زيدان وقاسم أمين، وصدقي الزهاوي ومحمد كرد علي ورفيق العظم شكيب أرسلان
واحمد لطفي السيد وولي الدين يكن ومعروف الرصافي.
التيار التقدمي الثوري، الذي التقي مع التيار الليبرالي في أفكار القومية والعلمانية والعقلانية والتحرر الاجتماعي، ولكنه زاد عليه في أنه كان أكثر راديكالية، وأنه كان علي تماس مع قيم ومبادئ الاشتراكية ( العلمية والوطنية). أبرز أعلام هذا التيار: عبد الرحمن الكواكبي شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسي الذي يمكن اعتباره مخضرما بسبب معايشته كلا من مرحلة النشأة والمرحلة التالية لها مرحلة ما بين الحربين.
ويتبين من استعراض الأطروحات الأساسية عند كل من هذه التيارات الثلاثة السابقة ، أن اعطاء العقل، وبالتالي الاجتهاد دوره في مسائل الدين والدنيا، وضرورة أن يعتمد تقدم الأمة علي جناحي البرهان والعرف، كانت تمثل القاسم المشترك لهذه التيارات، قبل أن تختلف بهذه الدرجة أو تلك، وبهذه الصورة أو تلك، علي المسائل الأخري.
حدثت بعد الحرب العالية الأولي وبسببها جملة من التغيرات والأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية علي المستويين العالمي والعربي، ترتبت عليها جملة من النتائج السلبية، التي ما زلنا نحصد ثمارها المرّة، ونعاني من آثارها المؤلمة حتي هذه اللحظة. أبرز هذه الأحداث والتغيرات :
انتقال الوطن العربي من تحت نير االعثمانيين المهترئ، الي تحت نير الاستعمار الرأسمالي الأوروبي الفتي والقوي.
تجزئة الوطن العربي الي كيانات هجينة مفتعلة، وتحويلها الي مسنعمرات وظيفية، وتقاسمها بين الدول الاستعمارية المنتصرة في هذه الحرب، الأمر الذي حل معه الولاء القطري محل الولاء القومي، والولاء العصبوي (القبلي والديني والطائفي والجهوي والعصبوي) محل الولاء الوطني.
اعطاء بلفور وعده المشؤوم المتعلق باعطاء فلسطين وطنا قوميا للصهيونية العالمية، الأمرالذي ترتب عليه بداية انتداب بريطانيا العظمي علي فلسطين، ولاحقا طرد الشعب الفلسطيني من وطنه و احلال الكيان الصهيوني محله.
انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا وقيام الاتحاد السوفييتي 1917. تابع الاستعمار الأوروبي الجديد للوطن العربي سياسة التطويع والتخليف التركية، ولا سيما:
المحافظة علي علاقات الانتاج الاقطاعية، بعد تهجينها ببعض علاقات الانتاج الرأسمالية.
محاصرة الصناعات الوطنية التقليدية وطردها من السوق لصالح الصناعات الرأسمالية الوافدة.
تشويه الاقتصاد الزراعي الوطني وتحويله الي اقتصاد موجه، وحيد الجانب والاتجاه بما فيه مصلحة الصناعة الغربية.
المحافظة علي الانقسام العمودي في المجتمع العربي (القبلية، الطائفية، الانقسام الديني، الانقسام القومي، التعصب الجهوي) وتوظيفه في خدمة سياسة فرق تسد الاستعمارية المعروفة.
نشر وتعميق الفكر الاقليمي في الوطن العربي (الفرعونية، القومية السورية، الآمازيغية) علي حساب القومية العربية.
محاولة تفكيك العروة الوثقي بين العروبة والاسلام، بواسطة تشجيع كل من التطرف القومي والتطرف الديني.
تطورات ايجابية :
ومع ذلك، فقد شهدت مرحلة ما بين الحربين عددا من التطورات الايجابية، علي الصعيد العربي، كان أبرزها:
اغتناء الوعي السياسي القومي بالمضمون الاجتماعي، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية.
الانتشار النسبي للفكر العلمي علي حساب الفكر الغيبي الميتافيزيقي والخرافي.
تنامي عدد المثقفين، ولا سيما،الطلبة والعسكر والموظفين.
ظهور العمال كقوة أساسية ذات أفق طبقي.
ظهور الانقسام الأفقي (الطبقي أساسا ) في المجتمع، علي حساب / الي جانب الانقسام العمودي.
تراجع الاقتصاد الطبيعي (الزراعي أساسا ) جزئيا لصالح أنماط الانتاج الحديثة (الاقتصاد الصناعي والخدمي).
نمو القطاع الحضري، وظهور عدد من الصناعات المتوسطة والخفيفة، وتطور الخدمات الصحية وما ترتب عليها من الانفجار السكاني ، والتورم المديني، ولا سيما المدن العواصم.
اجوبة المثقفين :
عندما استيقظ العقل العربي / الانسان العربي علي وهج الحضارة الغربية،التي شرعت تلف العالم والعالمين في القرن التاسع عشر الميلادي، وجد نفسه في وضع معقد وصعب ومتشاكل، انه مسحوق مرّتين، مرة أمام المدفع، ومرة أمام المصنع، متخلف لأنه مسحوق ومسحوق لأنه متخلف، وأيا كان الوضع والسبب، فانه بحلول القرن العشرين بات مدعوا الي مغادرة ذلك الكهف الذي دامت اقامته فيه قرابة الخمسين عقدا من السنين. وقد كان السؤال المطروح علي هذا العقل ولا سيما ونحن أمام المستجدات العالمية التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الأولي : من أين؟، والي أين؟، وكيف؟
وفي محاولة المثقفين المعنيين العرب الاجابة علي هذه التساؤلات الاشكالية، وبالاستناد الي جملة من المعطيات الموضوعية والذاتية، علي المستويين القومي والدولي:
لاذ البعض بالماضي المجيد للأمة، كمهرب من حاضرها نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20 المهين، حيث ذهبوا الي الأزمنة البعيدة التي كان فيها آباؤهم يثيرون رعب آباء الذين يحكمونهم اليوم .
حسب فرانز فانون، فان البحث المحموم عن حضارة قومية سابقة علي العهد الاستعماري انما يستمد مشروعيته من حرص المثقفين المستعمرين (بفتح الميم) علي أن يبتعدوا قليلاً الي الوراء أمام الحضارة الغربية التي يوشكون أن يغوصوا فيها الا ان هذا العياذ بالماضي علي ما يري المرحوم صدقي اسماعيل لم ينقذ انسان البلدان المتخلفة من واقعه المظلم فهو سواء اكان في الماضي مغامرا فينيقيا، أو مشرّعا بابليا، أو عالما مصريا، أو فارسا جاهليا، أو مسيحيا يبشر برسالة الروح، أو مجاهدا مسلما يغزو العالم، فانه في الواقع... نموذج للكائن البشري المعذب، الذي يسحقه شقاء الحياة والقلق علي المصير، ويجلله عار الرضوخ للارادات الأجنبية.
عاذ البعض بالحضارة الغربية، في صورة هروب الي الأمام حيث الايديولوجيات الجاهزة ولا سيما الايديولوجيتين الرئيسيتين، الرأسمالية والاشتراكية، وحيث الطريق الليبرالية السالكة للانتقال من المجتمع الاقطاعي التقليدي الي المجتمع الصناعي الحديث.
وهناك اتجاه ثالث عز عليه الهروب من المشكلة، سواء الي الوراء أو الي الأمام، الي اليمين أو الي اليسار، وشرع يبحث لنفسه عن طريق خاصة/ ثالثة، تجنب الأمة الخيارات الخاطئة، وتأخذ بيدها الي برّ الأمان، طريق تستحضر ايجابيات الماضي (التراث) وتمزجهابايجابيات الحاضر (الحداثة)، وصولا الي مجتمع عربي موحد قائم علي ايجابيات أثافي عصر النهضة الثلاثة التي سبقت الاشارة اليها الحرية، الاخاء، المساواة، وعلي المزاوجة الخلاّقة بين العقل والنقل، وبين القومية والاشتراكية، وبين العروبة والاسلام...، ولعل ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وأكرم الحوراني، وبالتالي حزب البعث العربي الاشتراكي، وجمال عبد الناصر قد ولدوا من رحم هذا التيار.
ما بعد الاستقلال:
ومع انتهاء الحرب العالية الثانية، بل وبسببها أيضا، حصلت علي المستويين القومي والدولي جملة من التغييرات التي كان للدول المنتصرة في هذه الحرب (الدول الرأسمالية الغربية والولايات المتحدة) اليد الطولي فيها. أبرزها:
حصول عدد من الأقطار العربية علي الاستقلال السياسي، وانضمامها الي منظمة الأمم المتحدة.
تأسيس جامعة الدول العربية (22/ 05/ 1945)، وانضمام الدول العربية تباعا اليها.
ظهور ما سمي بالاستعمار الحديث، بنتيجة صعود الولايات المتحدة الأمريكية، وهبوط الدول الاستعمارية التقليدية والتي كانت تمثل ما عرف بالاستعمار القديم ( برطانيا العظمي، فرنسا، اسبانيا، البرتغال...
اتساع رقعة ونفوذ المعسكر الاشتراكي، وخاصة بعد تبني الصين للنظام الاشتراكي.
صدور قرار تقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة (29/11 / 1947)، وتصويت الاتحاد السوفييتي الي جانب هذا القرار، وقبول بالتالي معظم الأحزاب الشيوعية العربية بهذا القرار، الأمر الذي ترتب عليه انقسام حركة التحرر الوطني العربية (ح ت و ع ) منذئذ حول القضية الفلسطينية.
ترسيم الدول الاستعمارية، ولا سيما بريطانيا (العظمي) لحدود دول اتفاقية سايكس بيكو العربية، بما يجعل من هذه الحدود المصطنعة قنبلة موقوتة يمكن أن تفجرها هذه الدول الاستعمارية في أي وقت تراه مناسبا لحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، كما هي حال الحدود العراقية الكويتية، وحدود مشيخات/ الامارات العربية المتحدة، والحدود السورية التركية، والسورية اللبنانية، الخ الخ.
اقامة دول ! جديدة، لم تكن موجودة أصلا، ذات وظائف استعمارية محددة، يأتي في طليعتها حماية الكيان الصهيوني الذي كانت تشيد أسسه وركائزه الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
ظهور مقولة التخلف والدول المتخلفة/ النامية/ التابعة /العالم الثالث، كظهير ونظير للدول الصناعية، المتقدمة العظمي )الرأسمالية منها والاشتراكية).
لقد ترتب علي هذه المعطيات الجديدة :
تقلص النفوذ السياسي والأدبي للبرجوازية الوطنية ولأحزابها، مقابل تزايد كم وكيف ونفوذ الفئات المتوسطة، والبرجوازية الصغيرة الناشئة.
بروز دور الجيش علي المسرح السياسي، بسبب الصراع العربي الصهيوني من جهة، ولكون شريحة الضباط وضباط الصف، تعتبر فئة اجتماعية متطورة، قياسا علي الفئات الاجتماعية الأخري، ذلك أنها فئة متعلمة، وعلي علاقة بالتقنية الحديثة المرتبطة بتكنولوجيا السلاح ، اضافة الي كونها فئة مترابطة ومنضبطة وظيفيا.
تنامي الوعي الوطني والقومي، الاجتماعي منه والسياسي، بما في ذلك الوعي المعادي للاستعمار والامبريالية
بروز ظاهرتين جديدتين علي المسرح الدولي والقومي، هما: ظاهرة الشعب الفلسطيني المشرد، وظاهرة الدول النفطية واللتين سيكون لهما الأثر الكبير والبارز علي عملية التطور والتغير الاجتماعي اللاحقة في المنطقة.
سقوط عدد من الأنظمة الملكية والتقليدية العربية، لصالح أنظمة جمهورية جديدة، وذلك علي يد الجيش والقوات المسلحة، ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، ثورة 14 تموز1958 في العراق، ثورة 23 سبتمبر 1962 في اليمن.
ظهور وتبلور التيارات السياسية الرئيسية في الوطن العربي، والتي تمثلت ب:
التيار الليبرالي ذو النزوع القومي، والمتبني في بعض الحالات لشعار الاشتراكية.
التيار الاسلامي بمختلف نزعاتة ومستوياته وانتماءاته.
التيار الماركسي اللينيني، أيضا بمختلف انتماءاته وتفرعاته.
التيار القومي العربي الذي كان يحاول ايجاد صياغة توفيقية لأيديولوجيا خاصة / طريق ثالثة، تنطوي علي كل الايجابيات المتضمنة في التيارات الثلاثة الأخري. (عصبة العمل القومي، الكتلة الوطنية، حركة القوميين العرب، الاشتراكيون العرب، حزب البعث العربي، ولاحقا الحركة الناصرية).
هذا مع العلم بأن حالة الصراع بين هذه التيارات الأربعة وتفرعاتها، كانت هي السائدة، وذلك كانعكاس لتركيبها الاجتماعي والطبقي والايديولوجي المتباينة. وأيضا لأن التطور الفكري العربي في هذه المرحلة التاريخية قد تميز من جملة ما تميز به في أنه بات يتشكل في أقطارعربية، تحولت وبفضل اتفاقية سايكس بيكو سيئة الذكر الي :
أقطارمنفصلة عن بعضها بعضا، سياسيا وقانونيا ، رغم انضوائها تحت عباءة جامعة الدول العربية،
أقطار علي درجات متفاوتة قليلا أو كثيرا، في سلم التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وأيضا في الحجم السكاني والمساحة الجغرافية.
أقطار علي مسافات متفاوتة جغرافيا وسياسيا وأيديولوجيا وقوميا من القضية الفلسطينية.
أقطارعلي درجات متفاوته من التجانس الاجتماعي والطبقي والديني والطائفي.
أقطارعلي درجات متفاوتة من النمو الاقتصادي، ومن المستوي المعيشي، ولا سيما بين الدول النفطية (الخليجية خاصة) والدول الأخري غيرالنفطية، بعد دخول عدد من الدول العربية المعروفة نادي الدول المنتجة للنفط OPEC ومما يؤسف له، أن الفكر السياسي والاجتماعي العربي النهضوي، بدلا من أن يعمل علي تجاوز ورتق هذه المسافات بين الجماعات والأقطار العربية، فانه علي العكس من ذلك قد خضع لها، وتكيف مع تمفصلاتها بل وعمل في كثير من الحالات علي تثبيتها وتعميقها، الي درجة اتسع معها الرتق علي الراتق الذي بات عاجزا عن اعادة المياه الي مجاريها والأمور الي نصابها، حتي أن الجمهورية العربية المتحدة التي قامت عام 1958، اثر استفتاء شعبي
ديمقراطي لامست نسبته حدود الاجماع، لم تستطع الصمود لأكثر من ثلاث سنوات، حيث نخرتها، ومن ثم قضت عليها، تلك الخلافات والاختلافات بين وضمن الأطراف النهضوية بل والوحدوية في كل من سورية ومصر علي حد سواء.
تمثل هزيمة النظامين المصري والسوري، أمام اسرائيل، في حرب حزيران (يونيو) 1967، نقطة انعطاف حاسمة، في تاريخ تشكل الفكر العربي الحديث والمعاصر، ذلك أنها أسقطت القناع عن نقاط الضعف في مكونات هذا الفكر، ولا سيما الفكر السلطوي الذي كان متربعا علي عرش الحكم في عدد من الأقطار العربية عام 1967، والذي فقد مشروعيته الآن ، تماما كما سبق لفكر مرحلة النكبة أن فقد مشروعيته بعد حرب 1948، حيث أطاحت به ثورات/ انقلابات 1952 في مصر، و1958 في العراق، و1962 في اليمن، و1963 في سورية الخ والتي عجزت بسبب طابعها العسكري غير الشعبي وغير الديمقراطي عن احداث أية نقلة نوعية ايجابية في بنية هذا الفكر سواء قبل سقوط جدار برلين أو بعده.
ان كلا من انتفاضة الحجارة، وانتفاضة الأقصي ضد الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين، والمقاومة الوطنية للاحتلال الأمريكي وأعوانه في العراق، وانكشاف النوايا الاستعمارية الانكلو أمريكية الصهيونية الجديدة والمتجددة في العالم عامة، وضع الفكر العربي، والمفكرين العرب أمام مخاض نظري وعملي معقد وعسير، مخاض يمكن أن يكون بداية النهاية لخروج الأمة العربية من عنق الزجاجةالي فضاء الحرية والديمقراطية، الذي زاد انتظار الأمة العربية له عن نصف الف من السنين، مخاض لم يعد يجدي معه الترقيع.
ان تململ هيئات المجتمع المدني، ولجان حقوق الانسان، وظهور التيار الاسلامي الوسطي والمعتدل في معظم الأقطار العربية، وهذا التأييد الشعبي الكاسح للمقاومة الوطنية في فلسطين والعراق ولبنان، انما يمثل أكثر من خطوة كبيرة علي طريق الألف ميل العربية المنتظرة.
كاتب واكاديمي في علم الاجتماع والفكر العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.