في كتابي «من ذاكرة تلك الأيام جوانب من سيرة أدبية تحدثت عن يوسف الخال بشكل صداقي وباحترام لاجتهاده الثقافي رغم أن المرحلة التي عاد فيها من أمريكا ليبدأ مشروع جرى ربطه بمنظمة حرية الثقافة الأمريكية وبمنظمة فرنكلين، وبعد ذلك صدور مجلة «حوار» ضمن سلسلة المجلات التي كانت تصدرها منظمة حرية الثقافة بعدة لغات، وما جرى للشاعر توفيق صايغ الذي كان يرأس تحرريها فتخلى عن هذه المجلة معترفا بأنه لم يكن على علم بارتباطها. كانت الخمسينات والستينات مرحلة صراع بين المعسكرين الشيوعي والغربي، وكان الانحياز العربي واضحا في مجال الثقافة نحو المعسكر الشيوعي اذ ان جل النخبة العربية المتميزة كانت يسارية الهوى والانتماء، وكان الذين يدعمون المشروع الثقافي الغربي بمجلاته ومؤسساته يوصفون باليمينيين والرجعيين وهذه الصفة ألصقت بجماعة مجلة شعر رغم ان أغلبهم ان لم أقل كلهم كانوا من مناصري وأعضاء الحزب القومي السوري الذي نجح بفضل كاريزما زعيمه انطوان سعادة في استقطاب معظم المثقفين في سوريا ولبنان من أدونيس الى يوسف الخال الى خليل حاوي الى يوسف حبشي الاشقر وفؤاد رفقة وغسان تويني وأنسي الحاج والياس الديدي وغيرهم.
ورغم ان يوسف الخال كان متكتّما في حديثه عن تلك المرحلة مكتفيا بما أنجزه وتركه للتاريخ كما يقال ولو أنه بقي حيا لرأى كيف جرى احياء مشروعه وأصبحت مجلته موضوعا للدراسات الجامعية وأعيد اكتشاف بعض شعرائها.
كان الحديث مع الخال وديا الى أبعد حد، وأتذكر ان زوجته الشاعرة والرسامة مها بيرقدار كانت تعمل وقتذاك في دار الصياد صحفية ورسامة، وكان الخال منكبا على ترجمة الكتاب المقدس لحساب منظمة الكنائس العالمية.
كان بشكل وآخر يعيش الكفاف، وذات يوم روت لي مها بيرقدار ان زوجها وعدها بأن يكلم أحد أصدقائه الناشرين لغرض نشر ديوانها «عشبة الملح» الذي قامت برسم غلافه وصوره الداخلية، ولكنه لم يحقق لها ما أرادت وسوّف في الموضوع.
وطلبت منها ان تعطيني مخطوطة الديوان التي عرضت عليّ أن اكتب تقديما له، ففعلت وهكذا أخذ الديوان طريقه للنشر بأسرع ما تصورته الشاعرة اذ أنني كلمت الناشر المعروف نزيه بعلبكي صاحب عالم الكتب التي نشرت لي عدة عناوين، وقال لي: أرسله فورا ولن يتأخر صدوره وقد تحمس اكثر عندما أخبرته انها زوجة يوسف الخال وهكذا صدر الديوان، وأقمنا احتفالا صغيرا حضره بعض أصدقائنا المشتركين، أما يوسف فقد اكتفى بتعليق قصير لا أتذكره بنصه، ولكن مفاده حسنا فعلت.
ثم عدت الى بغداد بعد ان أكملت فترة خدمتي، وبعد أشهر توجهت الى بيروت في زيارة فعلمت ان يوسف الخال مريض وانه يرقد في المستشفى بعد ان ضربه السرطان اللعين فتوجهت الى المستشفى لزيارته، وقد راعني ما رأيت اذ أنني وجدت قامته المليئة وكأنها تقلصت وضمرت وأنه قد قصر. وما أن رآني حتى هبّ متسائلا إذ كانت وزارة الثقافة العراقية قد بعثتني للاطمئنان عليه فأكدت له ما ذهب اليه.
أصابني حزن كبير وأنا أرى الرجل المهاب مرميا هكذا.ولم يكن معه من أصدقائه الا فؤاد رفقة وزوجته وكذلك مها التي كانت خارج المستشفى عندما وصلتها. يوسف الخال محب كبير للعراق، وأذكر هنا شهادة للرجل انه رغم مرضه كان قلقا على العراق وهو يخوض الحرب التي لم تتوقف مع ايران، ورأى ان انكسار العراق هو انكسار للعرب كلهم نظرا لما يمثله هذا البلد من قيمة ثقافية وحضارية في المنطقة كلها.
وسمعت بنبإ رحيله بعد عودتي لبغداد وكان ذلك أمرا متوقعا إذ أن السرطان أصابه في الرأس كما أخبروني. وأحزنني ما سمعت، وبدا لي وكأن الأقدار ترتب لي مواعيد مع مناسبات تتعلق بيوسف الخال فقد زرت لبنان من جديد وعلمت من الأصدقاء أن غدا ذكرى أربعين يوسف الخال، فتوجهنا إلى غزير مبكرين وهناك وجدنا ما فاجأنا للوهلة الأولى إذ أن أربعينية يوسف الخال لا تشبه أي أربعينية أخرى حيث وضعت جرار كبيرة ملأى بالنبيذ وكان الحاضرون يرددون الأغاني اللبنانية الشهيرة وهم واقفين يقودهم صوت غسان صليبا الرخيم والجبلي.
كان هذا اختيار زوجته وأصدقائه وأن أربعينية شاعر مثل يوسف الخال من أجل أن تكون مناسبة يجتمع فيها أصحابه يجب أن تكون احتفالا به، أما الأحزان فهي في القلوب.
كان مجيئي مفاجئا لبعض الأصدقاء الذين ظنوا أنني توجهت لبيروت من أجل هذه المناسبة التي لم أكن على علم بها، فكيف إذا توافقت زيارتي التالية مع مرور عام على رحيل يوسف الخال؟
لقد أعلمني الأصدقاء بذلك فور وصولي وكان الفصل شتاء، فتوجهنا إلى منزله في غزير ليلا وسط طرق جبلية خالية، وعندما وصلنا الدار وجدنا زوجة الخال مها مع شقيقتها سوزان بيرقدار والصحفية رينيه فرنكودس، وقد فوجئت مها بمجيئنا وبمجيء أنا بالذات الذي لم تتوقعه. كما ان الطقس كان سيئا، وجلسنا جميعا على الأرض وارتأت مها وهي تسيّر الحديث في تلك الجلسة التي مازلت أتذكرها، ارتأت الحديث عن المحاسن والمآخذ على يوسف الخال التي عايشته سنوات طويلة وأنجبت منه ابنتها ورد الممثلة المشهورة وابنها يوسف جونيور الذي أصبح هو الآخر نجما من أوسم نجوم التليفزيون اللبناني، وكانا وقتذاك صغيرين يلهوان في عالمهما الخاص. وبهذا صاغت مها مفارقتين كبيرتين في أربعينية زوجها ومرور عام على رحيله، وهاتان المفارقتان غير متوقعتين بالمرة.
لقد قادني لهذا الحديث عن يوسف الخال ملف مجلة «نزوى» عنه، ولعلي بما كتبت قد استكملت ما جاء بالملف رغم ان خبر فقدان قبره (كيف؟) قد استفزني بل وساءني جدا، فهل من المعقول أن يحصل هذا لقبر علم من أعلام الأدب اللبناني الحديث؟!